السعودية وتركيا… وآخر المعارك

ناصر قنديل

– رغم النجاح الروسي بفرض استثناء «جبهة النصرة» من أحكام الهدنة، وفقاً للتفاهم الذي جمع موسكو وواشنطن وترجم بقرار عن مجلس الأمن بالتصديق على أحكام الهدنة، كان واضحاً أنّ صيغة الهدنة وفقاً للنظرة الروسية المتفق عليها مع إيران وسورية هي صيرورة متحركة وليست إنجازاً إجرائياً يقطع بشأنه إقرار النص، فالهدنة كانت مخرجاً للفشل في التوصل لتفاهم على معايير لتصنيف التنظيمات الإرهابية، وعزلها عن العملية السياسية، وصولاً للدخول في آليات تركيب وفد معارضة يستثني الجماعات التي يتفق على تصنيفها إرهابية، ويضمّ أوسع تمثيل للذين يؤمنون بالمسار السياسي على أساس أولوية الحرب على الإرهاب، والصراع كان يدور في مسار لائحة الإرهاب على جبهة النصرة مع كلّ من السعودية وتركيا، واستطراداً على جماعتين تتبعان تباعاً للرياض وأنقرة هما «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» وتؤمن موسكو ودمشق وطهران باستحالة دمجهما بالعملية السياسية. وفي مسار الوفد المعارض كان الصراع يدور على مكانة هاتين الجماعتين في المفاوضات من جهة، ومن جهة مقابلة على قابلية الوفد للاتساع لتمثيل لجان الحماية الكردية وبعض الفصائل المستثناة من جماعة الرياض.

– صيغة الهدنة كانت ترمي إلى وضع معيار اختياري لتصنيف الجماعات المسلحة وحسم غير مباشر للائحة الإرهاب، والمعيار هو الابتعاد عن «جبهة النصرة» وقبول تصنيفها إرهاباً كشرط للدخول في العملية السياسية، والاستفادة من أحكام الهدنة، وبالتالي التعامل مع الهدنة كمسرح صراع، وليس كصيغة ناجزة للتنفيذ، وعلى هذا المسرح سيسعى ثنائي الرياض أنقرة ومعه في المسرح الخلفي «إسرائيل»، تحت عنوان أحكام الهدنة، إلى الاستعاضة من جهة عن التبييض السياسي لـ«النصرة» وتعويمها كشريك في العملية السياسية، بدمجها تحت يافطة جماعة الرياض في أحكام الهدنة، واستثمار عائدات الهدنة وميزاتها لإغراء «النصرة» بقبول التخفي وراء يافطة الجيش الحر، والإفادة من حجم «النصرة» لتكبير حجم جماعة الرياض التفاوضي، ومن جهة أخرى لتثبيت وجود «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» من ضمن أحكام الهدنة والعملية السياسية كشريكين أساسيين، وإغلاق الباب أمام أيّ بحث بالمساس بحصرية تمثيل جماعة الرياض للمعارضة.

– في المقابل سيسعى التحالف الروسي السوري الإيراني إلى توظيف الهدنة وأحكامها لتجميع وحشد قدرات كافية لحسم متدحرج لمواقع حساسة ومفصلية في وضعيتي «داعش» و«النصرة» المستثنيتين من أحكام الهدنة انطلاقاً من أنّ هذا الحسم المتدحرج سيكشف ظهر الجماعات المسلحة المحسوبة على السعودية وتركيا ويجعلها بلا حول وطول فتنخرط قسراً في العملية السياسية أو ترتضي مصير «النصرة»، والسعي على مسار موازٍ إلى تفعيل حضور الجماعات المعارضة الموجودة خارج جماعة الرياض، وصولاً إلى لحظة مفصلية، تنهار فيها الهدنة بسبب خروج الثنائي التركي السعودي منها، أو فرض تيويم دائم للهدنة مع كلّ متغير، وفقاً لسلوك الأطراف المقابلة.

– في حصيلة أيّ تقييم موضوعي سياسي وعسكري، تفوّق المحور الروسي الإيراني السوري على خصومه في الجولة الأولى من مبارزة الهدنة، فقد نجح عسكرياً في خوض معركة تدمر، وترصيد إنجاز جيواستراتيجي في الحرب على «داعش» في حسابه، كما نجح في تثبيت استحالة تجاهل المكوّن الكردي من المفاوضات، في المقابل نجح الحلف التركي السعودي باللعب مع الوقت لإخفاء تمسكه بـ«النصرة» عبر حمايتها تحت راية «الجيش الحر» في حلب وأريافها، وحماية دور كلّ من «جيش الإسلام» و«أحرار الشام في قلب الهدنة والعملية التفاوضية، وجاءت اللحظة الفاصلة، بعدما سقط الرهان التركي السعودي المشترك مع «النصرة» على قدرة «داعش» إطالة أمد حرب تدمر وتحويلها إلى حرب استنزاف للجيش السوري وحلفائه، وها هي ساعة الحقيقة، فالجيش السوري وحلفاؤه سيتقدّمون إلى إدلب حيث لا مجال للخداع بهوية سيطرة «جبهة النصرة»، ورفع راية «الجيش الحر»، وهذا يعني سقوط «النصرة»، أو لا بدّ لـ«النصرة» من رمي قناع «الجيش الحر» والظهور للمنازلة في حلب وأريافها حماية لمعقلها الأهمّ والأخير في إدلب، وهذا ما كان.

– الجولة الثانية من معارك صيرورة الهدنة، تدور على مصير «جبهة النصرة»، بعدما وضعت تدمر كلّ شيء على المحك، ولذلك ينسحب وفد جماعة الرياض من المفاوضات، لربط مواصلة المحادثات بضمانات لحماية «النصرة»، وهو يسمّيها المعارضة المعتدلة، ولهذا أيضاً تندمج جبهات ريف دمشق حيث لجيش الإسلام الكلمة الفاصلة، بجبهات حلب وأريافها حيث لـ«النصرة» أولاً و«أحرار الشام» من بعدها الحضور الأهمّ، ومن خلف كلّ ذلك تقف السعودية وتركيا، للحديث عن أولوية تثبيت الهدنة، والقصد تثبيت حماية مواقع النصرة، بصفتها معارضة معتدلة ترفع راية الجيش الحر، ولهذا بعض من أسباب التصعيد الإسرائيلي حول الجولان حيث النصرة مصدر أمن لإسرائيل، كما قال نتنياهو، وفي حصيلة هذه المعادلة بكلّ تداعياتها تربح روسيا وسورية وإيران الجولة الثانية وتصير معركة النصرة جولة ثالثة من جولات صيرورة الهدنة، والجولة الثانية تصير ما بينهما، فيخسر بالنقاط وفقاً لقواعد الهدنة، مَن ينسحب من المفاوضات، ومَن ينقل القتال إلى جبهات جديدة، وتترصّد الخسارة في حساب تركيا والسعودية تمهيداً لاجتماع دول مسار فيينا المقبل، الذي أطلق من ميونيخ أحكام الهدنة وسيقوم بتقييمها في نيويورك نهاية هذا الشهر.

– يضطر المبعوث الأممي لتسجيل نقاط الخسارة على الفريق السعودي التركي ممثلاً بجماعة الرياض، فيقول إنّ انسحابها استعراض سياسي وإنّ المحادثات ستستمرّ بدونها، ويقول إنّ الخرق للهدنة في ريف دمشق يمثل خروجاً خطيراً من التزامات الأطراف ومكانها في العملية السياسية، ويتهيأ الجميع للذهاب للجولة الثالثة، التي يسارع الثنائي التركي السعودي لتكون في الميدان عبر إشعال محموم لكلّ الجبهات، تندمج فيها النصرة بكلّ سائر الجماعات المسلحة، استباقاً لاجتماع نيويورك الذي يسعى الروس ليصير قبل المعركة الفاصلة في حلب وريفها، سعياً لحصر القتال بجبهة النصرة، وتقديم آلية لفرز مواقعها عن سواها بمن فيهم جيش الإسلام وأحرار الشام، مع إصراره على تصنيفهما إرهاباً، لكن دون ممانعة تحييدهما من حرب النصرة، أسوة بما تمّ في معركة تدمر، بحصر القتال مع داعش ومراكمة أرصدة الأرباح بالتتابع.

– معركة النصرة واقعة لا محالة قبل نيويورك أو بعدها، ولن تنجح محاولات الرياض وأنقرة بتغيير المعادلة، بحيث يصير الحل هو تعديل الهدنة لتضم النصرة ضمن أحكامها، فيكون القتال عبثياً للتأثير على مسار نيويورك السياسي، ويصير التصعيد المحكوم بالعجز العسكري رغم التدخل التركي المباشر، جولة قتل وخراب، ستستمر حتى تبدأ عملية الحسم في حلب وريفها كما تمّت في تدمر، وهي مسار حتمي للهدنة، بل ترجمة فعلية لمضمونها، والفارق الذي ستحسمه الأيام هو هل تتحوّل معركة «النصرة» إلى معركة جماعة الرياض وجيش الإسلام وأحرار الشام، فيخرجون من الهدنة والعملية السياسية بقوة اندماجهم مع النصرة، ويكون المشهد مختلفاً كلياً مطلع حزيران المقبل مع جنيف الرابع، ويكون نصف الخروج طوعياً إدراكاً بأن لا فرصة لجماعة الرياض في عملية سياسية لا يساندها ميدان تملكه النصرة ونهايتها صناديق اقتراع لا تجرؤ جماعة الرياض على اختبارها، ولو في ظلّ رعاية أممية وأفضل شروط المنافسة المتكافئة لأنها تعرف أكثر من الآخرين كافة نتيجتها وحجم تمثيلها عندما تدق ساعة الحقيقة، ويكون نصف الخروج قسرياً على طريقة الإحراج فالإخراج، أو على طريقة اللعبة الروسية للشطرنج، نقلة حصان وتبييت قلعة وثم كش ملك!

– معركة «النصرة» هي آخر معارك تركيا والرياض… لذلك تراوح محادثات اليمن بالانتظار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى