الطبقة السياسية والاستحقاق البلدي…
علي بدر الدين
نجحت الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان بفعل مصلحية أدائها في إدارة شؤون لبنان بتحويله حقل ألغام وألغاز وأحجيات يصعب فكّ طلاسمها، ومعرفة اتجاهاتها، سوى في الربع الساعة الأخير من موعد الاستحقاقات الوطنية الكبرى، بهدف تضييع اللبنانيين في متاهات وتوجهات أصحاب المصالح السياسية والطائفية والمذهبية والزعائمية. بعد إفراغهم من طموحاتهم وقتل آمالهم وزرع بذور اليأس والإحباط في نفوسهم وإضعاف حركتهم وجنوحهم نحو الإصلاح والتغيير أو توقهم لاختيار الأكفأ والأفضل في أيّ استحقاق على أمل أن يحدث صدمة أو اختراقاً في جدار تحكم هذه الطبقة المتماسكة والشرسة جداً دفاعاً عن مصالحها. وللحؤول دون أن يجرؤ البعض على الاقتراب من امتيازاتها ومكاسبها، أو المساس بها، وهي التي حصلت عليها من دون وجه حق بل بالهيمنة والتسلط ومصادرة الحقوق والحريات، وحتى المال العام.
وبات من الصعوبة بمكان في ظلّ القبضة الحديدية لهذه الطبقة التي تمرّست على استعمالها، أن ينجح الشعب اللبناني في إحداث أيّ خرق أو انتزاع أيّ مطلب حق أو تحصيل أية خدمة مهما كان نوعها وحجمها إلا برضاها وقبض ثمنها من أصحاب الحاجة، على الأقلّ إخضاعهم بالمطلق لسياستها وإملاءاتها، واستعمالهم كأرقام ليس أكثر في معاركها الانتخابية ومناسباتها السياسية. يعني ببساطة وشفافية سلب إرادة الناس وإفراغهم من هويتهم الوطنية والإنسانية. هذه السياسة الإخضاعية الإلغائية الممارسة منذ عقود أنتجت جمهوراً مستسلماً، رافعاً العشرة ومنتظماً في اصطفافات سياسية وطائفية ومذهبية «يمشي على العجين وما يلخبطوه»، كما يقول المثل المصري.
هذه الطبقة المكوّنة للنظام السياسي الطائفي الممدّد له منذ أن مُنح لبنان استقلاله في العام 1943، لا زالت لغاية اليوم أمينة على هذا النظام ووفية له في مواصلة سياسة التمديد وتمديد الممدّد له في مختلف مواقع السلطة بذرائع واهية ومفبركة وربما مقصودة وعن سابق إصرار وتصميم لتبرّر لنفسها ولجمهورها الحاجة إلى التمديد، لأنّ حصول الانتخابات النيابية وغيرها من الاستحقاقات الدستورية في ظلّ عدم الاستقرار يعني جرّ اللبنانيين إلى الحروب التي قد لا تنتهي وتقضي على كلّ أمل بإنقاذ لبنان.
ومنذ بداية الأحداث اللبنانية وقبلها وبعدها ولبنان غارق في معارك سياسية وأمنية وطائفية ومذهبية جماعية وثنائية وإلغائية. وعلى مدى هذه السنوات الملتهبة أمنياً بقيت الطبقة السياسية ذاتها متربّعة على عرش السلطة من دون تغيير أو تبديل في المواقع والأسماء والمكاسب والامتيازات والنفوذ والسلطة، وإذا حصل أن نزل وزير أو نائب أو مسؤول عن صهوة مسؤولياته فلأنه عصى أوامر «السلطان» أو «الباب العالي»، وهذا من المحرّمات التي يعاقب عليها، من دون أن تغفر له سنوات إخلاصه وقربه من صاحب القرار.
سياسة التمديد أو التجديد التي انتهجتها الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة، هل تنسحب على المجالس البلدية والاختيارية، حيث يتحضّر اللبنانيون لخوضها ترشيحاً واقتراعاً بدءاً من الثامن من أيار المقبل، في ظلّ تسريبات عن الاتجاه إلى التجديد لهذه المجالس لمدة سنتين، ويقابلها تأكيد وإصرار من المكونات السياسية الممثلة في الحكومة وخارجها على إجرائها في مواعيدها المحدّدة من دون تمديد أو تجديد، حيث لا أحد يجرؤ على المجاهرة برفض إجراء هذه الانتخابات، لأنّ سلة الفضائح امتلأت عن آخرها. ويكفي تلاعباً بمصير اللبنانيين وسلبهم حرياتهم وأسرهم في الأحلام والأوهام والوعود «العرقوبية»، وانّ الإصرار على الاستحقاق الانتخابي البلدي هو منة وكرم أخلاق ممّن في السلطة التي تمارس مع اللبنانيين لعبة القط والفأر.
ليس كلّ ما يُعرف يُقال، والحديث فوق الطاولة غيره تحتها، يعني ببساطة اللعب على أعصاب اللبنانيين وإرباكهم وتضييعهم وصولاً إلى الإحباط واليأس وعدم الحماس والتحفّز لخوض المعارك الانتخابية الشكلية في غير منطقة لبنانية معتمدة على تحالفات ثنائية أو ثلاثية حاكمة تمتلك السلطة والمال والنفوذ وكلّ وسائل الترغيب والترهيب، وبالرغم من تأكيد السلطة حصول الانتخابات، فإنّ اللبنانيين يعيشون الحيرة والتردّد وعدم الوثوق بمواقف هذه السلطة، لا سيما أنّ الاستحقاقات البعيدة والقريبة خير دليل على انعدام الصدقية، وحتى الذين يتقدّمون بطلبات الترشيح فإنهم غير مصدّقين إجراءها.
أما السؤال الذي يتكرّر: «ليش في انتخابات؟».
ودائماً «كلام الناس ألسنة الحق»، وما الذي يمنع في هذا البلد غير المستقرّ، والذي يهدّده العدو «الإسرائيلي» بالتدمير، من أيّ اهتزاز أمني في ظلّ بؤر أمنية موزعة على خريطة لبنان وإرهاب يتربّص للانقضاض عليه شعباً وجيشاً ومقاومة ووحدة داخلية، من تأجيل هذه الانتخابات تمديداً أو تجديداً، وهنا الطامة الكبرى، لأنّ معظم المجالس القائمة باتت مترهّلة، منعدمة الشرعية، لا حول لها ولا قوة ولا فاعلية، وانفرط عقد العشرات منها بل المئات على ساحة لبنان بعد أن نخرها سوس الخلافات والتفرّد والتسلط لرؤساء بلديات يدعمهم زعماء الطوائف وأمراؤها. وجلّ ما قدّمته بعض المجالس البلدية وتفتخر بإنجازه فينحصر في بناء حوائط دعم تنهار مع كلّ شتوة، أو زراعة أشجار على جوانب الطرق إما تتعرّض لليباس بسبب إهمالها وعدم ريّها أو تتحوّل إلى غذاء للماعز والغنم، أو تكتفي بإزالة النفايات من الشوارع وتكديسها في مكبات على تماس مع المدن والقرى لتنبعث منها الروائح وتصبح ملاذاً للكلاب الشاردة ومصدراً للبعوض والبرغش القاتل من دون وجود مَن يراقب أو يحاسب. ومعظم المجالس البلدية التي انتخبت أو تمّ تعيين أعضائها بعناوين فضفاضة كالتوافق الديمقراطي أو التزكية أو عدم التوازن بين لائحة مكتملة مدعومة ولائحة غير مكتملة يخشى بعض المرشحين من خوض المعركة معها، لأنها قد تسبّب لهم وجع رأس وتداعيات ليس بمقدورهم مواجهتها أو الاعتراض عليها.
فهل تعي بعض المجالس البلدية دورها ووظيفتها في إدارة الشؤون المحلية والمساهمة في تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وبالتالي تحقيق التنمية المطلوبة؟ أما أنّ الهدف الأسمى لدى القيادات السياسية الحاكمة والراعية للعملية الانتخابية تحقيق غلبة فريق على آخر وتعداد البلديات المحسوبة لها وللفريق الآخر، وتشكيل مجالس بلدية غير متجانسة عمرياً وفكرياً وخبرة تتناحر مع أول جلسة حتى يتراكم التناحر ويرتفع منسوب التصادم فتنعدم الجلسات لانعدام اكتمال النصاب القانوني وتلغي ما يسمّى بمحاضر الجلسات، ويبقى الرئيس مع قلة من المقرّبين والمستفيدين يغرّدون خارج السرب الوظائفي للمجلس البلدي وتقتصر خدماتهم على تحقيق مكاسب ومنافع شخصية وفق صلة القرابة العائلية والسياسية والطائفية.
فبئس انتخابات كهذه، إذا كانت نسخة طبق الأصل عما سبقها. والمصيبة الأكبر إذا وقع التمديد أو التجديد. وفي كلتا الحالتين فإنّ لبنان هو الخاسر وإنّ اللبنانيين فقدوا كلّ أمل وثقة بالطبقة السياسية التي لا تنتج سوى الفساد والإهمال والحرمان لهم وتراكم الثروات وقوة التسلط والنفوذ لها.