لا تسمحوا بتجميل النظام الطائفي لبشاعته بالنسبية فتقبّحونها

ناصر قنديل

– يدور النقاش على إعادة تكوين الأنظمة السياسية في بلدان كثيرة في المنطقة من لبنان إلى سورية والعراق وصولاً إلى مصر وتونس واليمن وسواها وفي جوهر النقاش آلية انبثاق مؤسسات السلطة وقلبها المحرك المجلس النيابي، ويبدو القاسم المشترك في المناقشات كلّها حجم الاستعداد لاعتماد النظام النسبي في العملية الانتخابية، وهو النظام الذي يقوم على اللوائح الحزبية المتنافسة ونيل كلّ منها عدداً من المقاعد يتناسب مع حجم النسبة التي تنالها من أصوات الناخبين.

– ينطلق معارضو النسبية من مصالحهم أولاً التي تتمثل بضمان وصولهم لأعلى نسبة حضور في السلطة، والتي يرون أنها تتمّ وفق تعزيز قواعد الاستناد إلى ربط العملية الانتخابية بمعايير غير الخط السياسي والبرامج الاقتصادية والإنمائية والوطنية التي يعتمد عليها النظام النسبي ويسعى إلى تعميمها كأساس لانتظام العملية السياسية، في مقابل تعمية السياسة واستبعادها كأساس للعملية الانتخابية وربطها بعناصر مثل الرشوة الخدمية الفردية أو الرشوة المالية المسمّاة شراء الأصوات، أو العصبية الطائفية، أو الروابط العائلية والموروث الديني ودور مؤسساته في التأثير على خيارات الناخبين، والموروث السياسي للزعامات وما يسمّى بالبيوت السياسية وتقاليد التبعية لها واعتمادها كمرجعيات.

– لا يملك معارضو النسبية في رفضها أيّ منطق مفاضلة، بنظام آخر من زاوية صحة التمثيل أو الضرورات الإصلاحية، فيلجأون إلى التحدّث عن عدم واقعيتها، ويرفعون بوجهها حجة عدم نضج الناس لخوض تجارب اللوائح المقفلة والتمثيل على أساسها وتفضيلهم الارتباط بوجوه يعرفونها لا ببرامج تقدّم لهم، أو يقدّمون حجّتهم على أساس عدم إمكانية ضمان التوازنات الطائفية مع اعتماد التمثيل النسبي، ومثله التمثيل المناطقي، ويضيفون تعقيدات مكانة البيوتات السياسية، والعلاقة الخدمية التي يربط عبرها الناخب صوته بمن يمثله في المجلس النيابي كحاجة لدى الناس، رغم تخلّفها والإقرار بأنّ الخدمات هي حقوق للناس وليست منّة يقدمها النائب لإعادة إنتاج نيابته.

– معارضو النسبية عموماً عابرون للقوى السياسية الوطنية واللاوطنية، والتيارات المساندة للمقاومة والمعارضة لها، فهم الذين ينظرون للسياسة كشأن فردي تراكمي، إما بسبب وجاهة أو نجومية أو مقدرة مالية أو موروث يمنحهم تفوّقاً على منافسين محتملين في البيئة ذاتها، وهم عموماً إذا سَرَت مع منطقهم في الحديث عن الموانع التي تحول دون السير بالنسبية فقلت بالنظام الفردي الذي يمنح المواطن حق المفاضلة بين المرشحين كأفراد، ويحفظ البيوتات التقليدية ويمنح الموالين فرصاً ذهبية، ويقيم وزناً للتوزيع الطائفي والمناطقي، جابهوك بالرفض بحجة أنّ شرذمة المجلس على كتل صغيرة تُضعف القدرة على تكوين مؤسسات السلطة على أساس سياسي، والقصد أنه يضعف قدرتهم على الإمساك من بوابة المجلس، بسائر مفاصل السلطة، فهم يتطلعون إلى ما هو أبعد من مجرد وصولهم كأفراد، بل إلى توظيف كتلة شعبية يمسكون بقرارها الانتخابي وفق معايير خارج السياسة بمفهومها العلمي والعصري، للمجيء بنواب هم مجرد عدد سياسي، أيّ أنّ الناخبين لم يقوموا باختيارهم على أساس خدمي ولا مالي ولا طائفي ولا وراثي عائلي أو تأثير ديني، بل على أساس سياسي هو أنّ رئيس اللائحة أو من يتخذ القرار قد فرض تسميتها على اللائحة المعتمدة، وهو تطبيق هجين مشوّه لما ينتقدون نسخته السليمة المعافاة في التمثيل النسبي.

– في المقابل يسعى دعاة النسبية رغبة بمنحها فرص التقدّم كنموذج، إلى تسهيل تقديمها، فيبدأون بالتساهل في شروطها، ويحاولون الردّ على حجج خصومهم، بإثبات أهلية النظام النسبي على استيعاب التقسيمات الطائفية والمناطقية، ثم يحاولون إبداع نسخ من النسبية تتسع للزعامات الفردية والوجاهات، ويصلون إلى القبول بالنسبية على أساس دوائر صغيرة، وبعدها إلى القبول بشراكة تكوين المجلس النيابي بانتخاب أعضائه ما بين النظامين النسبي والأكثري، وينجح خصومهم باستدراجهم إلى لعبتهم ومسرحهم، فلا ينتبهون إلى أنّ التطبيق المشوّه للنسبية سيعني سقوطها، وتحميلها مسؤولية الفشل، والقول ها قد اعتمدنا النسبية فماذا تغيّر، ولا ينتبهون أنّ النسبية هي نظام انتخابي لأخذ الحياة السياسية إلى نظام الأحزاب، وشرط اعتمادها هو حصرها بالأحزاب، رفض اعتماد دائرة تمثيل أقلّ من الدائرة الواحدة على مستوى الوطن، ورفض أيّ انطلاق من القيد الطائفي.

– يمكن القبول في لبنان وربما في سواه، بصيغة المجلسين واحد على أساس النظام الأكثري والقاعدة الطائفية والمناطقية أو ما يعادلها في بلدان أخرى، وثانٍ على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي، ووفقاً للوائح الحزبية، وإذا كان من غير الممكن توقّع القبول بالذهاب إلى صيغة مجلس نيابي على أساس التمثيل النسبي وخارج القيد الطائفي، ومجلس شيوخ على أساس التمثيل المناطقي والطائفي تكون موافقته ملزمة على تشريعات معينة، ويكون اجتماع المجلسين ضرورياً في حالات مثل انتخاب رئيس الجمهورية، وإقرار الموازنة وتعديل الدستور، وإقرار قوانين مثل قانون الانتخابات، فيمكن التفكير بتبادل الأدوار بين المجلسين، فيبقى المجلس النيابي وفقاً لقوانين التسويات في الدوائر بين القوى الممسكة بالسلطة، وتتجه القوى الراغبة بالإصلاح، للمطالبة بمجلس شيوخ على أساس النسبية واللوائح الحزبية، وخارج القيد الطائفي والدائرة الواحدة، وترتضي حصر شراكة مجلس الشيوخ بالتصديق على كلّ ما يحتاج إلى ثلثي مجلس النواب أو ثلثي مجلس الوزراء لإقراره بقوانين، واشتراك المجلسين في تسمية رئيس الحكومة، وانتخاب رئيس الجمهورية ومنح الثقة للحكومة ومناقشة الموازنة العامة، والمناقشة العامة للحكومة.

– قد لا يكون هذا ولا ذاك، ولكن المهمّ ألا يسمح أهل النسبية لخصومها باستخدامها مسحوق تجميل لبشاعة نظامهم الانتخابي فيقبّحونها ويسقطونها كأمل ويشوّهونها كحلم جميل يمكن أن يشكل بداية جديدة للحياة السياسية، فإما أن تكون النسبية كما يجب أن تكون أو لا تكون.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى