تجليات «جنيف 3»
سعد الله الخليل
صمت أوباما دهراً ونطق كفراً، قالها بالفم الملآن: لا إمكانية لإقامة مناطق عازلة لا جبناً ولا خوفاً من خصم، بل لصعوبة الإمكانيات وغياب الظروف المواتية لإقامة تلك المناطق، يخاطب الحلفاء قبل الخصوم ويطلب في رسالة خفية توفير العدّة والعديد لضمان أمن تلك المناطق قبل الحديث عن أيّ دور أميركي. وفي ذلك ما يحتمل إما المزيد من الابتزاز لحليفيه السعودي والتركي، أو رسالة مبطنة بضرورة الانخراط في التسويات، أو ربما يعوّل أوباما على ذاكرة السوريين التي يعتقد بأنها سطحية، ولم ينسوا بعد كيف أنه لم يجرؤ على فرض المناطق العازلة حين كانت بوارجه قرابة السواحل تجوب البحار، فكيف اليوم والسماء والأرض السورية محمية بتحالف جوي جدي قوامه الطيران السوري والروسي والمضادات الجوية الروسية بأقوى صواريخها «أس 400»، ولو كانت الأمنيات تحقق الرغبات لما اضطر أوباما للاعتراف مرغماً بصعوبة المهمة، فأمنيات أوباما ليست بعيدة عن أحلام حليفه السلطان العثماني، مع فارق جوهري بأنّ رئيس البيت الأبيض ومن يقف وراءه في سدّة القرار الأميركي يعرف آلية ترويض الأتباع، وفي لحظات الاستراحة يرفع من معنوياتهم تحضيراً لجولة جديدة قد يحتاج فيها إلى بعض النباح لتقوية شروطها التفاوضية ولفرض بعض المكاسب، والتي كان آخرها نشر البنتاغون لنظام هيمارس المدفعي الصاروخي لدعم عمليات واشنطن ضدّ تنظيم «داعش» في العلن، فيما الهدف الخفي هو السعي إلى خلق نوع من التوازن العسكري في ظلّ التواجد الروسي على الأرض السورية، بما يظهر الأهداف الحقيقية للخطوة الأميركية في مواجهة روسيا على الأرض السورية بعيداً عن ادّعاء محاربة «داعش».
وفي خضمّ المفاوضات التركية للانضمام للاتحاد الأوروبي الذي لا تزال بعيدة عنه، كما أعلنت مفوضة السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، والذي يبدو أنّ المخاوف الأوروبية من انضمام تركيا في محلها نظراً للتصريحات التركية، وآخرها دعوة رئيس البرلمان اسماعيل كهرمان، بالتزامن مع زيارة موغيريني، إلى ضرورة أن يكون دستور تركيا المقبل «دينياً» لا مكان فيه للعلمانية في أيّ جزئية منه، فهذا الطرح لا يقرّب تركيا من أوروبا، إنما يشي بإعادة أوهام السلطنة العثمانية، وبالتالي فإنّ مكان تركيا الطبيعي في ظلّ الرؤية التي يطلقها رئيس برلمان أردوغان هو إلى جانب «مملكة الرمال» في فكرها وتطلعاتها للمستقبل. ويبدو دعمها لتنظيمات «داعش» و«النصرة» في سياق مسارها الطبيعي وتطوّرها كدولة دينية، وفق رؤية كهرمان.
في جنيف جثمت المباحثات السورية كجثة هامدة في حالة موت سريري بانتظار مَن يكتب نعوتها دون أن يجرؤ أحد على سحب ترياق الحياة وإعلان موتها تمهيداً لدفنها، ولذلك سارع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف إلى الإعراب عن أمله في استئناف المفاوضات السورية ـــ السورية في العاشر من أيار المقبل وفي حيثيات المفاوضات وكواليسها التي أدرك المشاركون فيها بمن فيهم الوفد السوري بأنّ المباحثات لن تأتي بجديد من حيث الاختراقات في المهد السوري، فلا مانع منْ بعض المباحثات مع الوسيط الأممي بما يوضح وجهة النظر السورية على مبدأ «اللهم أشهد أني قد بلغت» لقناعتها بأنّ الأمم المتحدة لا سلطة حقيقية لها في التأثير على مسار المفاوضات التي تغيب عنها التفاهمات الدولية، حول إيجاد الحلول الناجعة للمأساة السورية. ومع إدراك سورية مضيّ الأطراف الإقليمية في المواجهة مع سورية، فإنّ البقاء في المفاوضات مكسب إضافي بعث برسائل عدة للأطراف كافة، بدءاً من وفد الرياض بأنّ المفاوضات ليست رهينة مشاركتها وللقوى الدولية الراعية لها بوجوب إعادة النظر بخياراتها ولمعارضة الداخل بأنهم شركاء حقيقيون في مستقبل سورية.
وفيما الحسم في الميدان، وهو ما يقوله الجعفري في قرارة نفسه، ويقرّ به كلّ متابع للشأن السوري، وفي الوقت الذي أطلق مَن يُوصف بكبير مفاوضي وفد الرياض شرارة العودة للقتال وأوعز لمسلحيه بالعودة لاستهداف الجيش السوري، فليتحمّل النتائج و«من رفع الهزَار إلى القمة فلينزله».