إشراقات لونية عراقية في الأونيسكو… وجمود المغامرة التشكيلية
جهاد أيوب
التجربة التشكيلية الفردية لا تختصر الواقع العام. ونجاح الفنان يعني نجاحاً لجهوده وخصوصيته وتفوّقه. ولكن التجارب الجماعية تعطي صورة واقعية وواضحة لتقدّم أو جمود أو تميّز أو تأخّر في ركب تطوّر النص البصري تشكيلياً، خصوصاً أن الإبداع عند العرب فردي وليس جماعياً، ولا ينتمي إلى فكرة المؤسسة. وكم من تجربة ماتت أو تقلّص دورها وحضورها مع رحيل صاحبها، لأننا ببساطة لا نؤمن بالجماعة، ولا بمنهجة دورها في الإبداع. لذلك نجد الحركة الثقافية العربية حالة مسجونة بالواقع السياسي والاقتصادي، وجمودها ينفلت عند حركة الفرد. وبالعادة الفرد الباحث يحارب، ويخون ويسجَن في الجنون إلى أن يتنبه إليه قبل فوات الأوان ومن باب الحظ، أو يترك ليتراكم عليه غبار الزمن فيتوه مع دقائق الأيام، ويمر مرور الكرام. وهذا ما يوصلنا إلى تجارب الحركة التشكيلية العراقية التي تميّز الفرد فيها خارج العراق، بينما الجماعات في الداخل ظلت محدودة الانطلاق والتجربة. والمرة الأخيرة التي شاهدت فيها تجربة تشكيلية عراقية كانت منذ أكثر من عشر سنوات، وقد كتبت آنذاك دراسة وافية حول النصّ العراقي من خلال المشاهدة المباشرة والقراءة التاريخية، ولا خلاف أن النصّ التشكيلي العراقي تميّز بالحزن العميق، وهذا وللأسف أصبح من الموروث، ويغيب عنه التشريح بكل أنواعه من الفكرة واللون والنصّ.
وقد صُدمت كمراقب حينما شاهدت معرض «إشراقات لونية» الذي افتتح منذ أيام في الأونيسكو بدعوة من جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت، وبالتعاون مع جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين. صُدمت لأن الواقع التشكيلي العراقي يقف عند ما كان عليه سابقاً، ولا يزيح عن ذاك العمر وتلك التجربة. علماً أن التشكيل لا تزوره الشمس إلا إذا كان امتداداً وتطوّراً ومغامرة.
تغوص اللوحة العراقية بتقوقع الألم من دون أن تقرأه أو تبتعد عنه، وتتعمد إظهار الحزن المستديم الذي يجعل النصّ مغلقاً من دون آفاق، ويبعدنا عن مساحة تسمح للمتلقّي بالقراءة الحرّة والأشمل. ورغم أن ثمة من يصر أن يقول لنا إنه قد يفرح ويبقى في عالم الطفولة، إلا أنّ فرحه جاء متعمداً وناقصاً، فذهب إلى استخدام الأبيض من دون هدف أو وضوح لتفاصيل الفكرة، فكانت النتيجة حزينة مربكة.
نعم، لا تزال اللوحة العراقية تعيش في دائرة تكرار زخرفة التراث المستنسخة بطريقة مألوفة اعتمدتها البداوة لفقر الصحراء، وأخذها عنها بعض من يتغنّى بحضارات الماضي بحجّة الثراء، فلم يتمكّن من أن يعيش الماضي وموروثه، ولم يستطع أن ينسجم مع الحاضر لخوفه منه. وأخذ بانتقاده حتى التخمة. وأيضاً تعيش اللوحة في دائرة لونية شبه مكرّرة كما حال الأخضر ببصمته من دون انسيابية. غالبية النصوص المعروضة تعتمد لا بل مغرقة بالأخضر الجامد، والمثقل بحضور نافر رغم أنه من الألوان المستعدة للبوح وليس لوناً نارياً.
التجربة رغم أنها جماعية، لكنها اعتمدت بمجملها على الأصباغ الدخيلة. أي الأكرليك، ومتجاهلة الزيت الجميل والساحر إلا من خلال ثلاث لوحات يتيمة، يضاف إلى ذلك استخدام الكولاج بحياء وخجل مم دون الجنون. واللافت محاولة خنقه بالأصباغ كأنّ الفنان يخجل من الكولاج. فظهرت التجارب جميعها فقيرة تحتاج إلى إعادة قراءة وتنفيذ.
المغامرات اللونية لا تزال خارج النصّ العراقي الذي شاهدناه سابقاً واليوم في الأونيسكو. والمغامرات البصرية والفكرية لم تجد طريقها بعد. لا بدّ من مغامرة تكسر التابو التقليدي الجامد الذي يسجن النصّ ضمن البرواز، ويحرّر الانسيابية اللونية والفكرة وما وراء الفكرة، ويأخذ التشرّح وفنونه بمسؤولية، ويؤمن أن الزخرفة المأخوذة من التراث لا تحرّر النصّ بقدر ما تشكل ديكوراً ليس أكثر، وقد تعيقه. أقصد أن النصّ التشكيلي العراقي يحتاج إلى ثورة مغايرة، ونفضة جنونية تبعده عن قوقعة الحزن والألم، وتعطيه الدافع كي يخاطب الجميع لا ذات الفنان فقط. وكما أن الانفتاح على التجريب كمتنفّس للروح وللنص، هو من أهم مفاتيح الخوض بقراءة معاصرة، لا أن نعيش اليوم ونحن نفكر وندمن الماضي والمجهول فيه.
هذا الكلام لا يلغي أن هناك بعض اللوحات الجميلة، ولكن لوحة واحدة من فنان لا تتمكن من الاجابة عن زنزانة الواقع، ومنها لوحة معن كرماشة «شفافية ونعومة، وذكاء في استخدام الاحمر والابيض والازرق»، وتجريدية سيف قاسم، ومحسن الشمري، وأحمد الغزاوي، وهاني دلة علي، وزياد غازي.
شارك في المعرض 54 فنانة وفناناً، ومنهم: محمود شبر، زياد غازي، مراد ابراهيم، علي شاكر نعمة، وضاح مهدي، حسن ابراهيم، فاخر محمد، علي هاشم، مكي عمران، جاسم الفضل، هاني دلة علي، سالم الدباغ، أحمد ناصيف، سوسن النواب، منى مارعي، رائد عبد الامير، ستار لقمان، محمد الكناني، سيف قاسم، اياد الزبيدي، علاء البلداوي، كريم شيفو، مهى طالب، محمد الزبيدي، ستار درويش، كفاح عبد الجبار، وسام عبد جزي، محمد شوقي، محسن الشمري، حسين مطشر، أحمد الغزاوي، حسام عبد المحسن، ضياء الخزاعي، معن كرماشة، ضحى الكاتب، قاسم السبتي، زينة الأسدي، سهى الجميلي، تحسين الزبدي، عاصم عبد الأمير، يسرى العبادي، علي العبدلي، صلاح هادي، حيدر صدام، وليلى أكبة.