الأمم المتحدة
د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجية السورية
تستطيع سورية بكلّ جدية وثقة بالنفس، أن تروي سيرة تاريخها كعضو مؤسّس في الأمم المتحدة، بصفتها من الدول القليلة التي رفعت دائماً راية الاحتكام إلى القانون الدولي والدفاع عن الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة ومعاهداتها، التي كانت دائماً من أوائل الموقعين عليها، وكما كانت الداعية دائماً إلى تطبيق قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي.
مع التوقيع على اتفاقية منع انتشار الأسلحة الكيماوية وإنهاء ملفها الكيماوي، تكمل سورية ترتيب كلّ أوراقها مع القانون الدولي، علماً أنّ العالم كله يعلم أنّ سبب وجود هذا الملفّ لم يكن يوماً إلا قصور وعجز الأمم المتحدة وتخاذلها أمام «إسرائيل»، التي تملّكت تحت نظر وبمعرفة الأمم المتحدة وبشراكة ودعم عدد من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، أضخم ترسانة للسلاح النووي الذي شكل ولا يزال مصدر تهديد للأمن الإقليمي والعالمي، ناهيك عن امتلاكها لترسانات لا حدود لها من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وكلها تستهدف سورية قبل أيّ أحد آخر باعتبارها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تعتبر في حالة حرب معها، والغريب العجيب بعد ترتيب سورية لملفها الكيماوي مع القانون الدولي أن شيئاً لم ينتقص من الدلال الذي تحظى به «إسرائيل» في ملفها النووي وسائر أسلحة الدمار الشامل الأخرى، والقائم وجودها أصلاً على تحويل القاعدة إلى شواذ، وهو شواذ يجد بين مندوبي الدول الكبرى في مجلس الأمن من يُدافع عن مشروعيّته من دون خجل، بينما يتواقح هؤلاء في ملاحقة سورية على تفاصيل إنهاء ملفها الكيماوي، ولا يتوانون عن توجيه سهام الاتهام لها بالتقصير أو المماطلة، من دون وجه حق.
تجربة الأمم المتحدة ككيان معنوي مع سورية، وبالمقابل تجربة الأمم المتحدة مع «إسرائيل»، تقدم نتيجتين متعاكستين، بين دولة ترفع راية القانون وكيان يتباهي بانتهاكه، ودولة تدعو إلى تطبيق القرارات الدولية وكيان يقول قادته إنّ هذه القرارات لا تعادل قيمة الحبر الذي كتبت فيه، وبالمقابل تجربة سورية مع الأمم المتحدة قياساً بتجربة «إسرائيل» تقول العكس تماماً، فمَن يحظى بالتوبيخ هو الابن البار المؤدّي لكامل واجباته بكل احترام، ومّن يحظى بالدلال والدلع والتنويه هو الولد الأزعر الذي لا يجلب لأهله إلا الشتيمة كما يفترض.
لقد كان الحديث عن الكيل بمكيالين يدور في الماضي حول السياسات الأميركية في المنطقة، وازدواج المعايير كان صفة حصرية بالسياسات الأميركية، حتى صرنا اليوم نجد بعضاً من سياسات ومواقف المسؤولين في الأمم المتحدة ما يمثل التعبير الأوضح عن الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير، بما قد لا ترتكبه الحكومة الأشدّ وقاحة في العالم التي تمثلها الإدارات الأميركية المتعاقبة.
تفوّقت مواقف بعض مسؤولي الأمم المتحدة على الوقاحة الأميركية في تطبيق إزدواجية المعايير والتهرّب من القانون الدولي كمنطلق للمواقف والسياسات.
لقد تسنّى لسورية في سنوات الأزمة التعرّف عن قرب إلى كثير من المواقف المتصلة بدهاليز الأمم المتحدة، كما تسنّى لي شخصياً كمعنيّ مباشر منذ كنت أشغل مقعد بلدي في نيويورك ومع متابعتي بعد ذلك للتواصل مع الأمانة العامة وسائر مستويات القرار في الأمم المتحدة ومنظماتها، أن أضع يدي على سلوكيات ومواقف يندى لها الجبين بمعيار القانون الدولي والمواثيق التي تحكم عمل المؤسسة الأولى في العالم، والمعنية بالأمن والسلم الدوليين.
القضية المخجلة التي لا يمكن التغاضي عنها، هي أنّ الأمانة العامة والمبعوث الأممي لسورية وكثير من منظمات ومنابر الأمم المتحدة، يلتقون منذ بدء سنوات الأزمة في سورية على تجاهل متعمّد لوجود الإرهاب في سورية، ودوره وحجم الأذى الذي يلحقه بالبشر والحجر والبنى التحتية، على رغم امتلاء أدراج المعنيين جميعاً بآلاف الصفحات التي تحكي حكاية هذه الجرائم، وتدعم الحقائق بالوثائق التي يعود مصدرها غالباً إلى جهات محايدة تعمل بصورة مباشرة أو غير مباشرة لحساب أو بالتعاون مع الأمم المتحدة ومنظماتها.
تجاهل وجود الإرهاب وفقاً للمعايير القانونية للأمم المتحدة، هو تستر عليه وتشجيع له لكنه صار سياسة رسمية معتمدة لدى المنظمة الدولية، التي أصدرت مئات القرارات تحت عنوان مكافحة الإرهاب وتعريفاته والحرب العالمية على الإرهاب.
تدبّ الحماسة في عروق المعنيّين في الأمم المتحدة إذا ما وردتهم مقالة في صحيفة مغمورة أو موقع إلكتروني مجهول، توجه اتهاماً إلى سورية بأي انتهاك ولو بلا دليل أو وثيقة، ولا يخجل مسؤولوها عن الدعوة للحاجة إلى التحقيق في ما يرد هنا أو هناك، وكثيراً ما تكون المعلومات مزوّرة والصور منقولة من خارج سورية وفي زمن مضت عليه سنوات، أو بلا أي مستند، بينما لا يرى هؤلاء المعنيون أنفسهم بحاجة إلى ذكر الإرهاب وجرائمه في أيّ بيان يصدرونه، وهم في مجالسهم يقرّون ويعترفون بالحقيقة، ويفركون كفاً بكف عند مطالبتهم بأن تتضمّن بياناتهم بعضاً يسيراً مما يعرفون أو يقولون.
مجازر الجماعات الإرهابية المدعومة من الحكومة التركية بحق أبناء مدينة كسب السورية لا تزال مثالاً حياً، يدعو كلّ مسؤول أممي لأن يخجل من تحوّله إلى مطية لدعم الإرهاب، لأنّ منظمته ومسؤوليها لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة التقارير عن جرائم القتل والسلب والنهب والاغتصاب وتدمير الرموز الدينية وانتهاك المقدسات في كسب، كما قبلها في العديد من المدن والبلدات السورية، وعلى رغم دور الحكومة التركية المفضوح تنأى الأمم المتحدة ومسؤولوها بأنفسهم عن مقاربة الحقائق، ويجدون الأعذار والتبريرات لذلك.
لماذا؟
لأنّ السبب الذي يجعل «إسرائيل» الكيان الإرهابي الأول في العالم، لدى الأمم المتحدة، ولداً مدللاً فوق القانون، صار يجعل الإرهاب الدولي لديها ولداً مدللاً فوق القانون.
ألا يشكل هذا سبباً كافياً للقول إننا بحاجة إلى إعادة صياغة أحوال المنظمة الأممية، لكي تكون فعلاً لا قولاً مؤتمنة على القانون الدولي، وأنها تتخذه معياراً وحيداً للمواقف والسياسات؟