الحوار الجدّي وقبول الآخر هما بوابة الحلّ…
د. محمد شعيتاني
الوعي هو معرفة المرء بوجوده وإدراكه لأفكاره ومشاعره، وحين تتسع دائرة وعي الإنسان يصبح مدركاً لمحيطه، وزمانه، وما فيه من مصادر السرور وبواعث الحزن والاكتئاب، كما يصبح مدركاً للفرص والتحديات والإمكانات المتوفرة في ذلك المحيط، ومن المهمّ أن نلاحظ أنّ وعي الإنسان بكلّ ذلك يظلّ منقوصاً ونسبياً، وقابلاً للجدل والمراجعة، لذلك لا بدّ من بحث عن سبل التواصل الاجتماعي عن طريق فتح باب الحوار الشامل على كافة الأصعدة لخلق محور التفاهم وجعل مبدأ اللجوء إلى الآخر المختلف هدفاً للسلم وتجنّباً لإفرازات الاختلاف السلبية الغير مرغوب فيها عند الاحتماء بالثقافة والوعي، لأنّ المجتمع المتجانس ثقافياً يتمتع بقوة مميّزة خاصة به، ويخلق مناخاً تشترك فيه الثقافات المختلفة لحوار مثمر يعود بالنفع على الجميع، ويساعد على إقامة حسّ مجتمعي تكافلي، وبذلك يسهل عملية التواصل الداخلي بين أبنائه، ويغذّي ثقافة كثيفة متماسكة ويمدّها بأسباب الحياة.
الاختلاف في ما بيننا في وجهة نظر أمر طبيعي ومفيد كثيراً، وخاصة في مثل هذه الظروف الحساسة التي تمرّ بها المنطقة وحول المواضيع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية خاصة، ولكن بشرط أن لا يصل الاختلاف الى حدّ التجريح والتقبيح، ولكن للأسف كثيراً ما تصل الأمور إلى أبعد من ذلك التهديد .
وهذا مؤذ جداً ومعيب، وخاصة بين فئة المثقفين والسياسيين والحزبيين في مجتمعنا، علماً انّ الاختلاف هو الإغناء عندما يتمّ توظيفه بإتقان، والحرص على الاحتفاظ به في مجراه الإيجابي والمثمر النابع من ضمير إنساني حيّ، والمحب للسلم الأهلي ونبذ العنف والتطرف وإلغاء الآخر مهما كانت درجة الاختلاف.
وأخصّ بالذكر هنا المجتمع اللبناني والحالة المأساوية التي سبّبها عدم الوصول الى التفاهم بين الأطراف سياسياً وميدانياً، وما سيؤدّي اليه في حال استمرارها لمدة أطول، فضلاً عن الحرب الكونية على سورية، إلا أنّ الوضع في لبنان سيؤدّي الى معاناة إضافية في حال استمرار عدم التوافق على جميع الملفات العالقة، ومن بينها الاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والالتفات الى مصالح الشعب اللبناني عموماً، وعند البحث عن أيّ مخرج لا بدّ من اللجوء الى مبدأ الحوار والقبول بالآخر كأرضية لبناء ايّ مشروع يجنّب المجتمع الهلاك المرتقب، بالإضافة الى ما هو عليه الآن.
ثقافة الحوار هي التي تعصمنا من الاختلاف المذموم وتجعله اختلافاً محموداً، وتعلّمنا فنّ إدارة الاختلاف بما يجعل من التمايزات بين البشر، مصدر ثراء وتنوّع وبهجة، وأداة للتفاعل الحضاري الخلاق تتيح للشعوب «التعارف» وتبادل الخبرات والتجارب والمعارف بين بعضها «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
ثقافة الحوار تفرض علينا خيار الحوار العقلاني وسيلة حضارية لإدارة الاختلاف سواء بتفعيل حالة الحوار الداخلي بين القوى والأطياف المجتمعية دون إقصاء أو تخوين لأحد، أو بتنشيط حالة الحوار الخارجي لإزالة سوء الفهم والظنّ وتغيير الصورة النمطية السائدة والتي كوّنها كلّ طرف تجاه الآخر، وهي في الحقيقة صورة ذهنية زائفة يمكن تصحيحها لتجنّب حالة الصدام والمواجهة.
السرو والصنوبر أشجار عالية لكن لا يغطّي أحدها الآخر، وعمودا الهيكل منفصلان لكنهما أساس متين له. هذه هي اللعبة فالحياة دائمة ومستمرة وعلينا أن نجد المناخ للتنفس ونتحاشى الضرر. فبالرغم من كلّ الفروقات لنحاول أن نحيا معاً بسلام حياة مشتركة لأنّ الله أحبنا كما نحن بخطايانا وضعفنا، فنقبل الضعف ونبحث عن الجمال في الآخر، فالحوار الحقيقي هو التعرّف على الذات وقبولها ورفعها وعدم الانتقاص من قدرها، والبحث عما هو جميل وحسن وجيد وفعّال.
وإنّ قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثقافة مبنية على حساب حقوق الآخر أو وجوده، كما ويجب النظر إلى الآخر المختلف من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أيّ سبب آخر، وطالما أنّ الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فرد مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكل طبيعي بما تنسجم مع واقعنا ومتطلباته.
يبدو للمتابع أنّ ضعف ثقافة الحوار وتردّي الالتزام بها في مجتمعنا، ليس نتيجة للتراكمات السلبية للتناحر السياسي الحزبي أو التناقض الاجتماعي والطبقي، بل هو نتاج خليط لتلك الحقبة الزمنية الطويلة من التربية السلبية الاجتماعية والثقافية التي امتزجت زمناً طويلاً، لتشكل تلك النتائج الهجينة في السلوك وتردي لغة الحوار وبالتالي انعكاس ذلك حتى على التربية الأسرية داخل البيت، وتتعداه إلى المدرسة والمجتمع.
للوصول الى ثقافة قبول الآخر يجب ان نبدأ مع الصغار ولأننا قد عوّدنا مجتمعنا وطلبتنا على ثقافة التلقين وليس ثقافة الحوار وتعليم الطفل الحفظ وليس التنوّع في الإجابات معتمداً على القدرة على إيجاد الحلول المناسبة. ولم نتعلّم ونعلّم ذلك في بيوتنا ومجتمعاتنا ومدارسنا وحتى في أماكن العبادة، وكلّ الذي تعلمناه هو انّ الآخر اذا لم يتطابق مع ما انا أهدف اليه فهو عدو لا محال ويجب ان ألغيه وأمارس كلّ سلطاتي لإلغائه.
وإن التسامح والديمقراطية لهما اتجاهان أيّ أخذ وعطاء وتفاعل ايجابي مع قيم إنسانية جديدة بعيدة عن روح التعصّب والكراهية وشطب الآخر المختلف.
حيث إنه في غياب الديمقراطية تنعدم إمكانية تكافؤ الفرص في التعبير عن الرأي، وفي غياب العدالة السياسية تنقطع فرص الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع، وفي غياب سلطة القانون يقع الضرر على الجميع بدون استثناء.
يكون الحوار عادة بين أطراف مختلفة ايديولوجياً وفكرياً كل منها يتحاور ويتناقش محاولاً إقناع الطرف الآخر بوجهة نظره، وفى أحيان كثيرة قد يتفق الأطراف على بعض النقاط في ما بينهم ومن ثم يتحوّل الحوار إلى حوار بناء يتمّ توجيهه لخدمة الصالح العام.
السبب الكامن وراء الاستقرار النسبي والغنى الثقافي لمعظم المجتمعات المتقدّمة يعود بالضبط الى حقيقة انها لا تعتمد على عقيدة سياسية وحيدة او وجهة نظر واحدة للعالم. ولا يتحقق التسامح وقبول الآخر، الا بالحوار والتواصل، والمشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار، لانّ إقامة حوار بنّاء، وخلق فضاء للنقد والفكر المستقلّ يسود المجتمع حالة من الاستقرار والسلام والتعايش مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه. وانّ الحوار والتواصل دائماً وأبداً هو الطريق الصحيح لحلّ جميع القضايا العالقة، وهو البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، وبالحوار نحافظ على التواصل والمحبة والسلام، ونعمّق معاني الديمقراطية والتعاون، ولا يكفي لنجاح الحوار مجرد الدعوة اليه من دون اتخاذ خطوات عملية تترجم ما اتفق عليه من قبل الأطراف المتحاورة على أرض الواقع، وتنمّي الثقة بين المتحاورين، فاذا لم يطمئن المتحاورون الى المصداقية في إجراء الحوار، واذا لم تستبعد العوائق والموانع فيصبح الحوار من دون غاية او هدف، او مجرد حوار من اجل الحوار.
رئيس هيئة حوار الأديان
باحث في الشؤون الإقتصادية والسياسية والدينية