أردوغان وأوغلو: الحاكم يشطب الفيلسوف من استراتيجيته

د. هدى رزق

تنحّى رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، الرجل الذي اعتبره المستشارالسابق للأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجنسكي، مثقفاً ومفكراً من طراز رفيع وتنبّأ له بمستقبل باهر. من المبالغ وصفه بكسينجر، فهو عمل مستشاراً لأول رئيس حكومة لحزب العدالة والتنمية عام 2002 في ظلّ الحزب الوليد بعد أن كان أركانه في حاجة إلى مستشار ومنظّر يحمل أفكاراً جديدة سطّرها أوغلو في أطروحته «العمق الاستراتيجي» حول موقع ودور تركيا الجديدة.

ترنّح مُنظِّر «الوحدة الإسلامية»، وعراب العلاقة مع إيران الإسلامية بعد توجّس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من مواقف الغرب الأوروبي والأميركي منه. بات متأكداً بعد زيارته الأخيرة إلى واشنطن من أنّ أوراقه بدأت بالاحتراق. تناقض مع رئيس وزرائه أوغلو بعد أن لعب الطامحون، الكثر من حوله، على هذه التناقضات ووعوا أنّ كلمة السر هي النظام الرئاسي.

لم يكتب التاريخ انتصاراً للفيلسوف على الحاكم. فلطالما دفع الفيلسوف أثماناً لمواقفه. لم يستطع أوغلو الاستمرار في لعب دور ميكيافيلي إلى جانب الأمير. قرّر الخروج من رئاسة حزب العدالة والتنمية رسمياً، في مؤتمر الحزب في 22 أيار الحالي بعد أن تمّ إسقاطه داخل الحزب. تدخل أردوغان في أدقّ تفاصيل حياة حزب العدالة والتنمية وجاء قرار نقل صلاحيات تعيين قادة الحزب في الولايات، من رئيس الحزب إلى لجنته المركزية منه شخصياً. جرى إنهاء دور أوغلو كرئيس للحزب. وصل الأخير متأخراً إلى قناعة بأنه لم يعد هناك مجال للتعايش مع رفيقه، الذي يحكم خارج الصلاحيات المُعطاة له في الدستور التركي، لكنّ أردوغان كان واضحاً منذ اللحظة الأولى لتوليه الرئاسة، عبّر عن طموحه للحصول على نظام رئاسي، فهو تمتع بصلاحيات مطلقة عندما كان رئيساً للوزراء ولحزب العدالة والتنمية.

لم يُعطِ الدستور التركي لرئيس الجمهورية سوى صلاحيات محدودة، لكنّ أردوغان فعّل صلاحيات كانت موجودة في الدستور لم يستعملها رؤساء من قبله، وحوّل أوغلو إلى رئيس شكلي للحزب والحكومة. وهكذا تحوّلت تركيا إلى أزمة بنيويةٍ لجهة ممارسة السلطة. أضاء الإعلام التركي على نقاط خلاف عديدة، كان لا بدّ لأيّ مراقب للوضع في تركيا أن يلحظها.

لم يخرج حزب العدالة والتنمية من تأثير الرئيس أردوغان الذي ضرب عرض الحائط لائحة أعضاء الحزب المرشحين للانتخابات النيابية التي تقدّم بها أوغلو في حزيران 2015، كما وقف ضدّ ترشيحه لرئيس الاستخبارات التركية هكان فيدان للانتخابات البرلمانية وطلب من الأخير العودة إلى وظيفته.

وقف أردوغان ضدّ الائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري إثر انتخابات 7 حزيران 2015 في حين كان أوغلو يفاوض المعارضة، فظهر وكأنه لا يمون على القرار. أحكم أردوغان قبضته على وسائل الإعلام والشركات وبنك آسيا التابع لغولن بعدما أعلن الحرب عليه كذلك سيطر على القضاء وأدخل صحافيين إلى السجن من دون محاكمة، ما أثار انتقادات الغرب وساهم في إصدار تقارير تدين ضرب حرية الرأي والصحافة ونزاهة القضاء.

حاول أوغلو طرح موضوع الشفافية عبر تقديم الوزراء السابقين المتهمين بالفساد إلى المحكمة العليا في خطوة استيعابية للغرب رفضها أردوغان. أما قضية سجن الأكاديميين وطرد بعضهم بعدما وقعوا على عريضة وقف الحرب في الداخل مع الأكراد، فكانت مجالاً لسجال داخلي بين الاثنين حول كيفية إدارة الأمور، لا سيما بعد زيارة جو بايدن الذي حمل النقد نفسه.

فجّرت زيارة أوغلو إلى ديار بكر للاطّلاع على أوضاعها حرباً كلامية بين رئيسي الوزراء والجمهورية، طالب أوغلو بالعودة إلى المحادثات التي توقفت مع أوجلان عام 2013 ولقاء حزب العمال الكردستاني تجاوباً مع دعوة الأميركيين العودة إلى طاولة المفاوضات، ما حمل أردوغان على الردّ بعنف وتأكيد استمرار الحرب كذلك التهديد بسحب الجنسية التركية من الأكراد المتعاطفين مع حزب العمال الكردستاني ورفع الحصانة عن حزب الشعوب الديمقراطي بحجة دعم الإرهاب وكان أوغلو اعتبر أنه لا بدّ من تحديد مفهوم الإرهاب الذي طالب به الاتحاد الأوروبي من أجل الإجابة على الشروط المفروضة على تركيا المطالبة بإلغاء تأشيرة دخول الأتراك إلى دول الاتحاد، لكنّ أردوغان اعتبر الأمر رداً على قرارته، واعتبر أوغلو مُحابياً للغرب.

يرى أردوغان ومساعدوه أنّ أوغلو غير متحمس للنظام الرئاسي، واتّهمه البعض بأنه لا يريد فقدان صلاحياته، لكنّ البعض الآخر يرى أنه كان يعرف نبض المعارضة كذلك نبض الشارع، حتى المؤيد منه لأردوغان الذي لم يحسم أمر الوقوف إلى جانب النظام الرئاسي.

جاءت الزيارة التي كانت مقرّرة لأوغلو إلى واشنطن لمقابلة الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن لتصبّ الزيت على النار حيث تساءل أردوغان عن سبب زيارة أوغلو لأميركا، بعدما زارها هو قبل فترة. وجدير بالذكر أنّ الزيارة قوبلت بفتور شديد من قبل البيت الأبيض الذي لم يكن مستعداً لزيارة أردوغان، إلا أنّ تدخل بايدن واعتبار مكانة تركيا كدولة أطلسية أديا إلى استقباله.

لم يعد أردوغان يستطع السكوت عن محاولة أوغلو التمايز سياسياً عنه، لا سيما أنّ الصحافة التركية عزفت أكثر من مرة على وتر تمايز هذه المواقف.

ماذ بعد هذا التنحي؟ أكد أردوغان أنّ النظام الرئاسي أصبح واقعاً على الأتراك التعامل معه وأنّ النظام لا يعيش برأسين.

يرى أوغلو أنّ الغرب يراقب مسار تراجع الديمقراطية في تركيا وهي نقطة سوداء في مسار حزب العدالة والتنمية الحاكم، فأردوغان يشخصن كلّ الأمور وقد ابتعد عن كلّ رفاق دربه وحلفائه وهو ينظر إليهم كأعداء محتملين. غيض من فيض هي المسائل التي ستخرج إلى العلن، فهل أصبح أردوغان مهجوساً من أصدقاء الأمس الذين أسس وإياهم حزب العدالة والتنمية، بمن فيهم عبدالله غول، وبولنت أرينش، وعلي باباجان وغيرهم.

يراهن أردوغان على جيل «أردوغاني» شاب داخل الحزب وقد أصبح يسيطر على الداخل. جيل تشكل وعيه على صورة أردوغان الشاب المناضل والعصامي الذي كان.

أما أوغلو، فقد أيقن عملياً أن لا مكان له اليوم إلى جانب أردوغان. جاء خطاب التنحي معبّراً عن خيبة أمل حاول داود أوغلو إخفاءها خلف تعداده للإنجازات التي حققها من أجل تركيا واعتبر أنه من مؤسسي الحزب فلا يمكنه أن يقدم على أية خطوة تجاه ضرب صورته أو صورة الحزب ولا حتى صورة علاقته بأردوغان.

بعدالمؤتمر سيكون أوغلو نائباً عادياً في كتلة العدالة والتنمية، لكنّ أردوغان صرّح بأنّ قرار التنحية كان لداوود أوغلو وهو الذي أبلغه باقتراحه خلال اجتماعهما يوم 4 أيار. إجابة أوغلو أكدت أنه بعد نجاحاته لم يكن الأمر اختياراً بل كان ضرورة.

يبدو أنّ دفع أوغلو إلى التنحي عن طريق الحزب له معنى واحد وهو أنّ من سيأتي سيكون أداة طيعة في يد الرئيس. لكن هل من استدارة يحضر لها أردوغان في الداخل أو في المنطقة تستوجب تحميل أوغلو وزر سياسات تركية فاشلة كانا فيها شريكين؟ المنطق يقول إنّ الثقة بين الطرفين قد باتت من الماضي وأوغلو يعلم أنها لو» دامت لغيرك لما وصلت يوماً إليك». هذه قاعدة ذهبية في العلاقة بين أردوغان وأصدقائه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى