كيف يوظّف الجيش الأميركي العلوم الإنسانية في الصراعات العسكرية؟
رغم السعي الأميركي إلى التدخل في العراق وأفغانستان، وغيرها من الدول، فإن المؤسسة العسكرية الأميركية لطالما أهملت تأثير العوامل الثقافية في تحويل دفّة الصراع. وبسبب قلة فهمٍ للتركيبة المجتمعية بأفغانستان والعراق، أغفلت القوات مصادر داعمةً للتمرّد، وأقصت حلفاءَ محتملين في محاربة الإرهاب.
في مقاله الذي نشرته «فورين آفيرز» الأميركية، يستعرض توماس مانكين العلاقة بين العسكريين والأكاديميين، والمساعي إلى تقليل الفجوة بين العلوم العسكرية والأكاديمية في الولايات المتحدة.
عام 2007، واستجابةً للاحتياج الواضح لأفراد الجيش الأميركي إلى فهمٍ أعمق للخلفيتين الثقافية والعرقية لأفغانستان والعراق، تم بدء مشروع «نظام التضاريس البشرية» أو «Human Terrain System». ووفقاً للمقال، فقد ربط المشروع بين الأكاديميين المدنيين، المتخصّصين في علوم مثل الأنثروبولوجيا وغيرها، وبين أفراد الجيش الأميركي. ركّز المشروع على تجميع بيانات الخارطة البشرية للسكان المحليين، والقبائل، والمشاكل التي تواجههم، ثمّ تحليلها والخروج بنصائح استشارية للجيش الأميركي.
لكن المشروع قابلته بعض الصعوبات، كما يوضّح مانكين، أبرزها رفض المجتمعات الأكاديمية نفسها التعاون مع الجيش الأميركي فنظرة الأكاديميين بشكل عام للحلول العسكرية، والقِيم التي يحملونها، تختلف بشكل كبير عن تلك الموجودة على جانب العسكريين، حتى إن الأمر وصل بالفرع التنفيذي لاتحاد علماء الأنثروبولوجيا الأميركي، بالقول إنّ «نظام التضاريس البشرية هو تطبيق غير مقبولٍ للخبرات الأنثروبولوجية».
لم يُعرقل المشروع من قِبل الأكاديميين فقط، لكن طريقة تعامل مؤسسة الجيش الأميركي مع الحروب في العراق وأفغانستان كان لها دورها في ذلك أيضاً. فرغم سعي الجيش الأميركي إلى خوض الحرب إلى جانب الشعوب، فإنّه يُبقي السكّان المحليين على بُعد ذراع من قواته، بدعوى تقليل الخسائر. لكن الفشل في التنسيق مع السكان المحليين يصعّب كثيراً من فهم ديناميكيات الصراع، كما يذهب مانكين.
وفقاً للمقال، ربّما «نظام التضاريس البشرية» هو المحاولة الأشهر في هذا المضمار، لكنها ليست المحاولة الأولى. فوفقاً للمقال، كان أحد الجهود السابقة للمشروع هو «فِرق إعادة الإعمار الإقليمي» أو «Provincial Reconstruction Teams»: بعثات تتكون من ضباط بالجيش ودبلوماسيين وخبراء تنمويين، لدعم عمليات إعادة الإعمار في أفغانستان ثم العراق من بعدها. أيضاً فقد أنشأت القوات المسلحة الأميركية عدّة منظّمات استشارية تعمل لصالح القوات المسلحة العراقية، ونظيرتها الأفغانية، على كافة الأصعدة.
كذلك فإن مبادرة «مينيرفا» البحثية، التي أنشأها وزير الدفاع آنذاك روبرت غيتس عام 2008، وفّرت برنامج مِنحٍ جامعية لتشجيع الطلاب والأكاديميين على دراسة الموضوعات التي تحتاج فيها وزارة الدفاع إلى مزيد من الخبرات، مثل الأيديولوجيات الجهادية. وفي 2009، جاء «برنامج أيادي آفباك»، أو «Af-Pak Hands Program» ترمُز « Af-Pak»إلى أفغانستان وباكستان ، بهدف إعداد كادر من الخبراء على دراية واسعة بالثقافات واللغات الأفغانية والباكستانية.
طبقاً للمقال، كثيراً ما أبدى ضبّاط الجيش الأميركي عدم اهتمامهم بهذه المبادرات، فهم يرون مهمة تقديم المشورة للقوات المحلية تشتيتاً يحوّل بصرهم عن مهمتهم الحقيقية في محاربة الإرهاب، ويظهر ذلك في تعيينهم لضباط الاحتياط والحرس الوطني لهذه المهام. ناهيك عن المبادرات الأكاديمية مثل «أيادي آفباك» و«HTS»، فعلى رغم أنّها ساعدت في بناء خبرات ضباط الجيش، إلا أنّها كانت بمثابة حشوٍ لرؤوس الضباط بالكثير من أمور التاريخ المعقّدة، التي لم يعتادوا على تلقيها. أمّا عن مُبادرة «مينيرفا»، وفقاً للمقال، فقد سقطت في أيدي علماء الجيش أنفسهم، الذين تغلبت غرائزهم السيئة على نزعتهم الأكاديمية.
يشير المقال إلى أن هذا الوضع الذي يرى فيه ضباط الجيش مثل هذه التدريبات انتقاصاً من فرصة تعيين الفرد في برامج القوات المسلحة، ليس مماثلاً للوضع أثناء حرب فييتنام، حين كان التدريب الثقافي والمجتمعي شرطاً مسبقاً للتأهل للوظائف الاستشارية، أو الالتحاق ببرنامج «العمليات المدنية والتطوير الريفي» أو «CORDs»، وهو مبادرة أنشئت عام 1967 جمعت بين مدنيين وعسكريين من الولايات المتحدة وفييتنام، وشملت تعليماً لغوياً وثقافياً ومجتمعياً.
يُقدّم الكاتب في نهاية المقال عدّة نصائح للجيش الأميركي، فالوضع الراهن يشير إلى أن الولايات المتحدة ستستمر في محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط في المستقبل القريب، وبالتالي فإن استيعاب الملامح الثقافية والمجتمعية لإنسان الشرق الأوسط يُعدّ أمراً لا مفرّ منه لتمكين الولايات المتحدة من خلق تحالفات جديدة.
أولاً، ينبغي تعيين المزيد من المهاجرين والمتّحدثين باللغات الأجنبية. قد يكون الأمر صعباً على رغم قدرة الولايات المتّحدة الأميركية على استقبال المهاجرين ودمجهم في نسيجها الوطني، فغالبية هؤلاء اللاجئين جاؤوا إمّا هرباً من بطش قوات بلادهم المسلّحة، ولا نيّة لهم للالتحاق بقوات مسلّحة أخرى، وإما جاؤوا من بلادٍ تنظر باحتقار إلى المؤسسات العسكرية.
ثانياً، يجب أن تشحذ الولايات المتحدة خبراتها الثقافية والمجتمعية بزيادة عدد الضبّاط المتخصّصين في العلوم الإنسانية والمجتمعية، بدلاً من التركيز الحالي على تفضيل أصحاب التخصصات التقنية والهندسية.
ثالثاً، توسيع دائرة الدارسين للغات الأجنبية من خلال معاهد القوات المسلحة المتميّزة، لتشمل ضباط الأكاديميات البحرية، وضباط الاحتياط، وكذلك توفير مزيد من الفرص لأعضاء الهيئة العسكرية للسفر والعمل بالخارج.
يُنهي المقال بالتنبيه إلى صعوبة سدّ الفراغات الواسعة بين العسكريين والأكاديميين في وقتٍ قليل، لكن الولايات المتحدة لديها فرصة لحشد جهودها وتحسين خبرتها المجتمعية والثقافية، قبل أن ينشب الصراع المقبل. وسنعرف حينذاك هل استغلت الولايات المتحدة تلك الفرصة أم لا؟