الانتخابات البلدية: رفض للطبقة السياسية وتمسُّك بالمقاومة

العميد د. أمين محمد حطيط

رغم أنّ الطبقة السياسية الممسكة بالسلطة في لبنان تشعر بحصانة تحميها من أيّ مساءلة شعبية، ما مكّنها من الإطاحة بالدستور والاستخفاف بالقانون، وتشريع الفساد والنهب المنظم لثروات البلاد، وبالتالي فهي لن يرفّ لها جفن مهما كانت مستويات الصرخة الشعبية ضدّها، رغم كلّ ذلك نجد أنّ الانتخابات البلدية التي نفّذت في جولتها الأولى في بيروت والبقاع، أعادت لوائحها ومنحتهم المقاعد المتنافس عليها، لكنها أنتجت مشهداً يؤشر إلى كثير من الدلالات التي كانت كفيلة بالإطاحة بنظام التسلط والسيطرة والفساد القائم في لبنان، لو لم يكن هذا النظام متحصناً بدروع الطائفية ويعتاش على جاهلية عشائرية تتبدل عناوينها وتتحد عند أمر واحد مفادها القول «السلطة لنا ولا قيمة لإرادة الشعب».

لقد أمعنت الطبقة السياسية المتسلطة في لبنان والتي تنهب ثرواته، أمعنت بالاستخفاف بالإرادة الشعبية التي هي أصلاً أساس كل السلطات، فمدّدت لنفسها بحجة الأمن ولم يعقها الأمن ذاته عن إجراء الانتخابات في بلدة تهيمن عليها بشكل ظاهر أو مقنّع جماعات إرهابية معظمهم من غير اللبنانيين، كما هو الحال في عرسال.

لقد أصرّت مكونات من هذه الطبقة على رفض أيّ قانون انتخاب نيابي يعكس الإرادة الشعبية ولا يلغي أحداً ولا يختزل أحداً بأحد وترفض اعتماد أيّ صيغة من النظم الانتخابية المعمول بها في العالم، وهي كما بات متعارفاً عليه صيغتان: إما النظام الأكثري القائم على الصوت الواحد لكلّ منتخب صوت واحد يختار فيه مرشحاً واحداً يمثله أو النظام النسبي على أساس اللوائح والدوائر الكبرى، وهي تصرّ على نظام أكثري بدوائر هجينة لا تعتبر كبرى أو متوسطة، وتفصل حسب مصالح مكوّنات الطبقة الدائمة في السلطة. ولهذا أو من هنا تبدأ العلة ويستشري المرض العضال، حيث يكون الانتخاب بمقتضى القانون النافذ اليوم نوعاً من تعيين أو اغتصاب أو شراء مقعد مترافقاً مع إلغاء وإقصاء بعيداً من رأي الشعب.

ورغم هذا ومع الملاحظات الجوهرية على قانون الانتخابات البلدية كما هي أو أكثر الملاحظات على قانون الانتخابات النيابية فإنّ الانتخابات البلدية جرت وكان لتنفيذها ونتائجها من الدلالات ما لا يمكن لأحد تجاوزه، حتى مع الواقع الذي ذكرنا بالنسبة للطبقة السياسية. ومن أهمّ ما يجب التوقف عنده من دلالات والأخذ به من استنتاجات ما يلي:

1 ـ سقوط ذريعة التمديد للمجلس النيابي، وبالتالي سقوط شرعية مجلس النواب الممدّد لنفسه، خلافاً للمبادئ الدستورية التي لا تجيز أصلاً للوكيل أن يمدّد وكالته من غير العودة إلى الموكل. لقد تجاوز المجلس الدستوري هذا المبدأ لعلة الظروف الاستثنائية التي استند إلى حالة الأمن المزعومة للقول بعدم القدرة على إجراء الانتخابات أما اليوم وقد جرت الانتخابات وسقطت الذريعة فلا مبرّر مطلقاً للعمل بما تبقى من المهلة الممدّدة بل تجب المسارعة فوراً وبمهلة شهرين حداً أقصى كما ينص الدستور، إلى إجراء الانتخابات النيابية ـ أما إذا استمر المجلس الحالي واستمر إلى جانبه مجلس أو هيئة الحوار فقد يتضمّن هذا الأمر إقراراً ضمنياً بسقوط الدستور أو تعليقه لصالح العمل بهيئة تأسيسية هي طاولة الحوار، لكن هذه الطاولة قائمة على عيب رئيسي لأنها غير شاملة التمثيل.

2 ـ أثبتت الانتخابات البلدية أنّ معظم مكونات السلطة متناحرة في ما بينها متحدة ضدّ الشعب، وفي المقابل يبدي الشعب إعراضاً ويأساً من هذه الطبقة من جهة، ومن جهة أخرى ورغم ذلك تجد محاولات شعبية ذات دلالة هامة تقتحم على الطبقة السياسية كهوفها وتهدّدها في تسلطها. وعلى العقلاء أن يدرسوا جيداً انتخابات بيروت، حيث عجزت لائحة السلطة عن الحصول على أكثر من 10 من أصوات الناخبين المسجلين، كما عجزت رغم كلّ ما قامت به من تحشيد وتجييش، عجزت عن المجيء بأكثر من 17 في المئة من الناخبين الذين صوّت أكثر من ثلثهم لغير لوائح السلطة. ما يعني أنّ تحشيداً إضافياً أو تغييراً في قانون الانتخاب سيؤدّي حتماً للإطاحة بالطبقة السياسية الفاسدة. رغم كلّ ما تملك من أدوات الترغيب والترهيب ومعها القدرة على التلاعب بالنتائج دون حسيب أو رقيب.

3 ـ تبدّل طبيعة تكوين الطبقة السياسية اللبنانية والانتقال من الإقطاع السياسي القائم على العائلات التقليدية إلى إقطاع سياسي أشدّ وأمرّ قائم على الأحزاب السياسية ذات البعد الطائفي التي تتحكّم بها عائلات جديدة وتسارع ضمور نفوذ العائلات السياسية دون أن تفقد وزنها أو تأثيرها لكن دون ان يمنحها هذا المتبقي من النفوذ أهلية البقاء في مقاعد السلطة، كما حصل في زحلة على سبيل المثال، حيث اكتسحت الأحزاب المتناحرة – المتحدة الميدان الانتخابي، ومنعت العائلة السياسية التقليدية لزحلة من الفوز بمقعد بلدي واحد، وبسبب القانون الانتخابي الظالم فاز بكلّ المقاعد من حاز على 10 آلاف صوت وحرم من التمثيل في المجلس البلدي 16 ألف صوت، لأنها توزعت على لائحتين. لتؤكد مرة أخرى وجوب تعديل قانون الانتخاب.

4 ـ أكدت الانتخابات البلدية أنّ الشعب إذا أراد يستطيع أن يثبت وجوده إذ ليس من الأمر البسيط أن يسجل في بيروت وضد لائحة السلطة نسبة عالية من الأصوات تجاوزت ثلث المقترعين، بما يحسب له ألف حساب في ما لو كان قانون الانتخاب عادلاً ويقوم على النسبية التي تفسح المجال بالتمثيل حسب الأحجام الحقيقية دون إلغاء أو إقصاء أو مصادرة.

5 ـ تبقى ملاحظة يجب أن تذكر هنا، رغم بعدها عن الفكرة الأساسية لموضوعنا هنا، وهي تتعلق بالشرعية التراكمية التي تكتسبها المقاومة المؤكد عليها في صفوف جمهورها، حيث إن انتخابات البقاع وبشكل خاص الشمالي منه، أكدت أن البيئة الحاضنة للمقاومة تشتد تمسكاً بمقاومتها، رغم كل ما تتعرض له المقاومة ومناصروها ومؤيدوها من مضايقات وملاحقات لم يكن قانون التضييق المالي الأميركي والتدابير المصرفية المتخذة بالاستناد إليه أقلها. لقد أتاحت الانتخابات هذه فرصة للقول بأن الشعب يتمسك بمقاومته تمسكاً لا تراجع عنه وقد تجلى بارتفاع نسبة المشاركين بالانتخاب وارتفاع نسبة المقترعين للوائح المقاومة إلى حد جعلها تفوز بكل البلديات التي نافست عليها.

وأخيراً، يمكن القول إنّ الانتخابات الأخيرة فرضت واقعاً وأرسلت إنذاراً للطبقة السياسية، مفاده أنّ الشعب لم يسلب كلّ قدراته وما لديه يمكنه من التحرك في مواجهتها، وأن النظام الانتخابي الظالم لا يمكن أن يستمرّ إلى الأبد، وأخيراً فإن إعادة إنتاج النظام وإعادة تصنيع الإقطاع السياسي المستبدّ أمر غير مأمون العواقب، فهل يبادر أصحاب الشأن إلى خوض معركة تحرير الوطن سياسياً واعتماد قانون انتخاب قائم على النسبية في كلّ لبنان كدائرة انتخابية واحدة أم أنهم سينتظرون انفجاراً يجبرهم على التغيير أو يحدث التغيير من غير الحاجة إلى موافقتهم؟

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى