نصر الأسد لبّ المعضلة التركية في حلب…
سعدالله الخليل
ثلاثةُ آلاف «داعشي» بالتمام والكمال قتلتهم أنقرة، جديد ادّعاءات سلطان القرن الحادي والعشرين رجب طيب أردوغان في حربه الدونكيشوتية ضدّ الطواحين الداعشية. وهو بالطبع رقمٌ كبير يستحق من السلطان أن يُفجر كعادته قنابلهُ الإعلامية غير القابلة للدخول في أيّ من مقاييسِ العقل البشري، بما يعظّم من قدر السلطنة التي تركها حلفاؤها تدفع «ثمن مكافحة التنظيم» وحدها، كما صرّح قبل أيام في محاولة لتعظيم إنجازاته أمام أهالي اسطنبول ولتصوير نفسه ضحية تآمر الغرب على الإسلام والمسلمين الذين يرفع رايتهم ليل نهار، ويحرص كلّ الحرص على تمثيلهم، في حين تتناسى الدول الكبرى وخاصة الخمس دائمة العضوية معاناتهم، وأنهم لا يُمثلون أعداد المسلمين الهائلة حول العالم وكأنه يلوّح بوجوب أن يكون للمسلمين موطأ قدم بين الدول الكبرى في مجلس الأمن، ووحدها تركيا المؤهّلة للعب الدور. هذا ما يقوله في قرارة نفسه، ولمَ لا؟ فتركيا لا ينقصها من معايير الدول الكبرى أيّ شروط ولديها من الإمكانيات ما يفوق ألمانيا وكندا واستراليا والبرازيل واليابان.
ويمضي السلطان في هذيانه في افتتاح المؤتمر العاشر لرؤساء أركان دول البلقان في اسطنبول، ليصل إلى الادّعاء بالتفرّد بدفع ثمن المعاناة الداعشية كضحية لتنظيم يتقن صنعة الاعتداء على المدنيين والدول، دون أن يقدّم ما يكفي من الأدلة المقنعة باستثناء تعابير وجهه التي لم تعد تكفي للمزيد من الشفقة على السلطان الذي ثبت أنه أكبر داعمي التنظيم الإرهابي.
وبعد أن ثبت بالأدلة الدامغة تورّط تركيا بالعلاقة العضوية مع تنظيم «داعش» لم يعد السؤال لماذا أوغل أردوغان في مغامرة ترتدّ على أمن بلاده وبالاً؟ ويحصد نتائجها استهدافاً لمراكز قوته؟ بل كيف ستتمكن أنقرة من محو آثار التنظيم وتلك العلاقة من صفحة سياساتها الغارقة في المستنقع السوري؟ وهل باستطاعة حلفائها التي تتهمهم بالتخلي عن محاربة التنظيم إنقاذ المشروع التركي في سورية؟ خاصة أنّ معركة حلب الكبرى قاب قوسين أو أدنى من البدء، بعد أن مكّنت فترات الهدنة المتلاحقة من وضع المعركة في سياقها الواضح، والذي ستتبلور معالمه خلال الفترة المقبلة خاصة بعد الإحباط الأميركي للخطوة الروسية بإدراج حركة «أحرار الشام» على قائمة التنظيمات الإرهابية.
كيف ستتعاطى أنقرة مع معركة حلب آخر معاركها وأوراقها في سورية؟ بعد انحسار أحلام السلطان العثماني، من الصلاة في الجامع الأموي إلى الرغبة بالوصول إلى المياه السورية من بوابة ريف اللاذقية إلى السعي للتمسك بحلب، وما تمثله من ثقل سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي يستحق المغامرة التركية.
في الخوض في ما يُعدّ للمعركة وبعيداً عن الحشود العسكرية لطرفي المعركة، والذي يبدو جزءاً من حماوة وطيسها في خان طومان، فإنّ ما يميّز الاستعدادات الإجماع الروسي الأميركي على وضع آلية في اجتماع فيينا في السابع عشر من الشهر الحالي لتحديد مواقع سيطرة «جبهة النصرة» ومناطقها لاستثنائها من الهدنة، وتولي مركز التنسيق المشترك في جنيف التأكد من تحييد الفصائل المسلحة التي تلتزم أحكام الهدنة عقب خروجها من مناطق سيطرة «النصرة». وهو ما يعني انكشاف «النصرة» وضياع آخر الآمال التركية بإعادة تدويرها والحفاظ على هيكلتها كذراع تركية يصعب ليّها، وهو ما يمنح المعركة المقبلة وضوحاً في الأهداف والمرامي لا تحتمل التأويل والمراوغة التركية، ما استدعى التصريحات الأردوغانية حول القتلى في مسعى للإيهام بانخراط تركي في مواجهة تنظيم «داعش» الإرهابي، وللمزيد من الإثارة كان لا بدّ من استحضار خطاب يرمي اتهامات بعلاقة أردوغان بالحرب على الإرهاب، فكانت اتهامات المتحدث باسم الرئاسة التركية ابراهيم قالن للحكومة السورية بالتسبّب في الأزمة الإنسانية الكبيرة التي تعصف بالمدنيين في حلب، إلا أنّ قالن لم يتعلّم الخبث والدهاء والمكر السياسي من معلّمه أردوغان، فسرعان ما كشف مخاوف أنقرة من «سقوط حلب بيد الجيش السوري»، حيث سيكون نصراً كبيراً للنظام ومؤيديه، على حدّ تعبيره، بما يكسب الرئيس بشار الأسد شجاعة في مواجهة العالم الذي يقف غير مبالٍ أمام ما يجري وهو لبّ المعضلة التركية، ومصدر الخوف والرعب التركي، فانتصار الأسد في حلب يقصم ظهر أردوغان ومشروعه في المنطقة.
حلب التي هاجمها قبل خمسة قرون بالتمام والكمال، أيّ في عام 1516 السلطان العثماني سليم الأول، وقتل عشرات الآلاف من رجالها ونسائها وأطفالها، تعيد التجربة مع حفيده أردوغان الذي يوهم نفسه بأنه سلطان القرن الحادي والعشرين. وها هي تدفع الثمن من دماء أبنائها ورجالها ونسائها، حلب التاريخ تدرك أنّ التاريخ يعيد نفسه فتهزأ حجارة قلعتها قبل أبنائها من جهل وغباء تنابل السلاطين ولسان حالهم يقول «من ضربت جذوره في عمق التاريخ فلا تسقطه شدة عابرة».