دريد لحّام ونهاد قلعي… ثنائيّ ريادة غير قابل للإضافة أو التكرار

دمشق ـ ميس العاني

شكّل الثنائي الكبير دريد ونهاد ثنائية عظيمة تنتمي إلى طرازالتجارب الناجحة غير القابلة للزيادة أو الاستعادة، ولم تبق ملكاً لأي طرف ولا حتى للمساهمين فيها، بل باتت ملك التاريخ والذاكرة.

لم تكن هذه الثنائية لتنجح لولا جهود بطليها الكبيرين نهاد قلعي ودريد لحام، اللذين أسسا لواقع الكوميديا السورية مثلما نراها اليوم، استناداً الى عبارة «نحن بحاجة إلى عمرين، عمر لنتعلم فيه وعمر لنعيشه»، وهذا قول الفنان الراحل نهاد قلعي، القادم من تجارب الحياة المختلفة في عدة مهن ووظائف والذي بنى أحلاماً وشرع آمالاً وصال وجال، من دون أن يدري أن القدر لن يفيض عليه إلاّ بعمر واحد كان عليه أن يتعلم ويعمل ويعيش ويتألّم فيه.

كانت حياة قلعي الفنان مليئة بالتجارب الزاخرة وأبرزها عمله برفقة الكبير دريد لحام ضمن أعظم ثنائية فنية عرفها العالم العربي في القرن العشرين. تلك الثنائية التي ما زالت نابضة حية تستعاد في كل حين ومناسبة رغم قصر عمرها إذ لم تتجاوز ستة عشر عاماً من العمل المشترك.

ولد نهاد قلعي الذي عرف باسم «حسني البورظان» في دمشق عام 1928 لأب يصفه بنفسه بأنه كان من عشاق السهر على البردوني في زحلة، حيث كان يرافقه وكان يشعر بالسعادة كأي إنسان يهوى الصفاء. انتسب إلى مدرسة التجهيز الأولى بعد حصوله على شهادة السرتفيكا في ثانوية جودت الهاشمي، وتتلمذ على يد الأستاذ عبد الوهاب أبو السعود، وكانت أول مسرحية شارك فيها «مجنون ليلى» ومن محاولاته الأولى نحو دراسة الفن في مصر التي كان يتوافر فيها وحدها معهد للتمثيل، لكنه لم ينجح في السفر إلى بلاد الكنانة. ثم انتسب الى استديو «البرق» مطلع 1946 وكانت أولى مسرحياته هناك بعنوان «جيشنا السوري» وقدم في سنة 1963 آخر مسرحياته من دون دريد «مدرسة الفضائح» لشريدان.

شكل عام 1962- 1963 البداية الحقيقية لعمل الفنان الكبير الراحل قلعي في المسرح القومي عندما قدم موسماً كاملا من خمس مسرحيات وكان بناء مسرح القباني اكتمل عام 1962 وأصبح مقراً للمسرح القومي، إذ تحدث قلعي عن المسرح قائلاً: «فرحنا به كثيراً، على علاته، فللمرة الأولى أصبحنا نملك مسرحاً امتزج بعرقنا ودموعنا حتى أصبح قطعة منا، وكل ركن فيه يشهد على ذلك. لقد تعلمت من المسرح وكنت أنادي بعدم تقييد الموظفين بل الاكتفاء بمطالبة الفنان بالعطاء والانتاج».

حول لقاء قلعي بالكبير دريد لحام يتحدث المؤلف بشار ابراهيم في كتابه «دريد ونهاد» قائلاً: «حصل ذلك أثناء مشاركتهما في برنامج «الأسرة السعيدة» إذ التقى الفنان دريد لحام وشكلا معاً للمرة الأولى ثنائيتهما الناجحة عبر برنامج «سهرة دمشق» … ». ويروي إبراهيم قصة اسم «حسني البورظان» على لسان الراحل قلعي الذي قال: «كان اسمي حسني وذات مرة كنت أتحدث على الهاتف مباشرة على الهواء خلال التمثيل فنسيت الحوار وحاولت تذكره فقلت والسماعة في يدي أنا حسني، ثم أضفت متسائلاً لإضاعة الوقت حسني مين في تلك الأثناء لمحت خلف الكواليس أحد أفراد الفرقة الموسيقية يحمل بورظاناً فقلت حسني بورظان الذي أصبح اسمي من ذلك الحين».

لا يمكن أحداً أن ينكر مكانة هذا الممثل العبقري إذ كان مبدع شخوص ما زالت ماثلة في أذهان ملايين العرب مثل «أبو عنتر» و«بدري أبو كلبشة» و«أبو رياح» و«فطوم حيص بيص» و«ياسينو» وغيرها من الشخوص التي عرفناها في حارة «كل مين أيدو إلو» في «صح النوم» و«حمام الهنا» وغيرها من المسلسلات والأفلام السينمائية التي استهلت عام1964 بفيلم «عقد اللولو» مروراً بـ«لقاء في تدمر» و«غرام في اسطنبول» لتبلغ حصيلتها 24 فيلماً سينمائياً. لكن هذه الأفلام وصفها الراحل قلعي بالسطحية إلى حد ما، لأن الجمهور أفسدته السينما المصرية فكانوا يأخذون النصوص من كتاب سيناريو مصريين ويعدل فيها هو ودريد، ما جعلها تجربة سينمائية فاشلة على حد تعبيره، فلم يتعامل معهما منتج أو مخرج جيد، ما جعلهما في النهاية غير راضين عن أعمالهما السينمائية. لكن في المقابل شعرا بالرضى عن أعمالهما التلفزيونية والمسرحية.

لا يكتمل هذا الثنائي إلا بالفنان دريد لحام الذي حمل اسم «غوار طوشة» تلك الشخصية الفنية اللصيقة بذاكرة الجمهور العربي والتي لم تمت حتى الآن. وكان للدكتور والإعلامي الرائد صباح قباني الفضل في اللقاء الأول بين الفنانين الكبيرين إذ دفعهما حب المغامرة إلى الاستمرار. عن هذا يقول الكبير دريد لحام في حوار منشور في كتاب «دريد ونهاد»: «أعتبر أن ما دفعني إلى طريق الفن والتحالف الفني مع نهاد قلعي هو حب المغامرة. تبنينا الفن من دون تفكير، من دون أن أدرسه أو يدرسني. جمعنا استوديو التلفزيون السوري وأصبحنا صديقين منذ اللقاء الأول، ولم نقرر أننا سوف نستمر معاً. الاستمرار حصل مصادفة. الأستاذ نهاد قلعي وأنا لا يشبه أحدنا الآخر، لكن في العمل كنا صديقين لم نعش معاً إذ كان لكل منا فلسفته وأسلوب حياته المختلف. الفن جمعنا، وكان الراحل قلعي من بادر وكتب بيده «دريد ونهاد» للمرة الأولى. بدأت قصتي مع اسم «غوار» بعد برنامج «الإجازة السعيدة» الذي فشل، فالناس يتعاطفون مع تراثهم وفنونهم، لا مع فنون الآخرين، ولم أحتج وقتاً طويلاً لأدرك موديل الشخصية، شكلها كموديل، لا كمضمون. لا أستطيع القول لغوار عيد ميلاد هو يوم كذا. تكون تكوينا بدءاً بالشكل ثم تبلور رويداً رويداً، ولا يمكن أن تفصل غوار عن الشروال والنظارة والقبقاب. حين اعتزل الأستاذ نهاد نتيجة مرضه عرض بعضهم أن نشكل ثنائياً جديداً، لكني كنت أقول لهم إن المسألة ليست مسألة شخص سمين مكان شخص سمين أو شخص رفيع مكان شخص رفيع، فأنا لا أستطيع تبديل الأستاذ نهاد ولا يستطيع تبديلي. من المستحيل أن نكوّن ثنائياً آخر إذ كان هناك توافق جعلنا واحداً».

حول لقائه بالكاتب والشاعر محمد الماغوط يقول لحام: «أول لقاء كان في حرب تشرين، تحديداً في نقابة الفنانين. تحدثنا عن أمور فوجدنا أننا في الطريق ذاته والأسلوب عينه وطريقة التفكير نفسها. من هنا جاءت مسرحية «ضيعة تشرين» إذ كنا نرى أن الجندي العربي لم يهزم عام 1967 إنما عاد بهزيمة أخذها معه أصلاً إلى الحرب. اللقاء مع الماغوط عملياً هو زواج فني طبيعي لشخصين قادمين من خلفية فنية وسياسية ويملكان نظرة متناغمة إلى حد معين أنتجت هذه الأعمال، وكانت «شقائق النعمان» العمل الأخير مع الماغوط».

قد تكون تجربة الثنائي دريد ونهاد أول وآخر تجربة كوميدية عربية تمكنت من تحقيق شرطي الإبداع المعجز في القدرة على الإضحاك وتقديم مضمون فني هادف في آن واحد يعكس الكثير من جوانب حياة الإنسان العربي، بسلبياتها وإيجابياتها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى