نحو مواجهة «داعش» لبنانياً وإقليمياً
عصام نعمان
أزمات لبنان تزداد عنفاً وعمقاً. آخرها سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية داعش» على بلدة عرسال الحدودية بين لبنان وسورية. إلى سكانها الأربعين ألفاً، ثمة نحو مئة ألف نازح سوري يشاطرونهم البلدة وجوارها. بين هؤلاء لا أقل من عشرة آلاف مسلّح مدججين بأسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة.
تتصدى لـِ «داعش» وغيره من التنظيمات التكفيرية، وحداتٌ من الجيش اللبناني يربو تعدادها على لواء نحو ثلاثة آلاف ضابط وجندي مزود دبابات وناقلات جند ومدفعية ثقيلة. لكن لا سلاح جو فاعلاً لدى لبنان لدعم قواته البرية المتصدية.
إلى هذه الحقائق الأمنية، تُضاف حقائق خمس أخرى سياسية واجتماعية يقتضي وضعها في الحسبان:
أولاها، إنّ ثلث سكان عرسال حاضنٌ للإرهابيين والتكفيريين أو متعاون معهم. وثلث ساخط وخائف وساكت على مضض. وثلث أخير نزح عن البلدة تدريجاً منذ بداية الأحداث.
ثانيتها، إنّ حزب الله ومقاتليه متواجدون في بعض البلدات والقرى المجاورة لعرسال، لكنه لا يشارك في عمليات الجيش اللبناني وإن لا يمانع في ذلك شريطةَ موافقة الحكومة مسبقاً على تعاون الجيش معه لمواجهة العدو المشترك.
ثالثتها، إنّ معظم اللبنانيين يؤيد الجيش اللبناني ويدعوه إلى مواجهة الإرهابيين والتكفيريين دونما هوادة. غير أنّ فريقاً من قوى 14 آذار المناهضة لسورية يتهم حزب الله بأنه مسؤول عن مشكلة عرسال لمجرد انتقال وحدات من مقاتليه إلى سورية لمساندتها في وجه أعدائها التكفيريين، ولا سيما في منطقة القلمون المحاذية لمحافظة البقاع على امتداد مسافة لا تقل عن 70 كيلومتراً. وهذا الفريق داخل قوى 14 آذار لا يكفّ عن مطالبة حزب الله بالانسحاب من سورية.
رابعتها، أن الجيش اللبناني يفتقر إلى العديد والعدّة والأسلحة اللازمة لمواجهة القوى الإرهابية والتكفيرية على مستوى البلاد كلها، ولا يستطيع بقدراته المتاحة حالياً طرد «داعش» من عرسال وجوارها. وإزاء تفشيل كل المحاولات الرامية إلى تسليح الجيش من خارج دول الغرب، وافقت فرنسا أخيراً على تزويده أسلحةً «دفاعية» بقيمة 3 مليارات دولار أميركي تعهدت السعودية بتسديدها دعماً للبنان. لكن هذه الصفقة الملتبسة لم تُنفذ بعد ما حمل سعد الحريري، مدججاً بمليار دولار إضافي، على استعجال إنهاء اغترابه الطويل عن البلاد بالعودة لترميم أوضاع فريقه السياسي المتضرر.
خامستها، أن قوى 14 آذار تدعم الجيش اللبناني، لكنها تحاذر إدانة «داعش» بالاسم وترفض، على رغم مشاركتها في الحكومة، التنسيق مع سورية للاتفاق على خطة مشتركة لمواجهة الإرهابيين والتكفيريين، والتعاون من أجل معالجة مشكلة النازحين السوريين وإعادة توضيعهم في مخيمات خاصة بمناطق آمنة داخل سورية.
في ضوء هذه الحقائق الخمس الرئيسة، يقتضي التفكير في ما يريده «داعش» وحلفاؤه على الصعيدين الإقليمي واللبناني كي يكون في وسع أهل القرار والقوى الوطنية الحية وضع الخطة المناسبة لمواجهته.
يتردّد في أوساط قياديين سياسيين واستراتجيين مطلعين أن لدى «داعش» وحلفائه مخططَين يسعى إلى تنفيذهما، الأول إقليمي والآخر لبناني. في المخطط الإقليمي، يسعى «داعش» الى استكمال احتلال محافظات العراق الغربية ذات الطابع السنّي نينوى وعاصمتها الموصل، صلاح الدين، والأنبار بغية السيطرة على حقول النفط والغاز الموجودة فيها، والسيطرة تالياً على المحافظات السورية المحاذية لها في الشرق والشمال الشرقي الحسكة، الرقة، ودير الزور ومن ثم الانطلاق منها لاقتحام محافظة حمص على طول خط نقل البترول المعروف باسم IPC الممتد أصلاً من كركوك في العراق إلى طرابلس في لبنان. بذلك يستحوذ «داعش» على حقول نفط وغاز عدة في شرق سورية كما على الإنبوب اللازم لنقل كامل منتوجها العراقي والسوري إلى مصبٍ ومصفاة ناجزين على ساحل البحر المتوسط. ويتردد أيضاً أن الغاية الإستراتيجية من وراء هذا المخطط مزدوجة: الاستحواذ على عائدات النفط والغاز لتمويل دولة «داعش» الممتدة رقعتها من حدود العراق وسورية مع تركيا في الشمال إلى الأردن والسعودية في الجنوب، وتحويلها إلى جدار سياسي عسكري فاصل يمنع تأثير إيران من الوصول إلى البحر المتوسط.
في المخطط اللبناني، يتحوّط «داعش» لإمكانية فشل مخططه الإقليمي فيسعى إلى تعويض خسارته بإقامة جيب عسكري في منطقة عرسال يكون ملاذاً لإيواء وحماية عناصره المهزومة والمطرودة من جميع المناطق المضطربة المحيطة بدمشق وغوطتيها من جهة، ومنطلقاً لمناوشة حزب الله في لبنان في إطار مشروع الفتنة السنّية الشيعية من جهة أخرى. إلى ذلك، من الممكن أن يذعن «داعش» لأوامر حلفائه الإقليميين فيتجاوب مع مساعي هيئة العلماء المسلمين للإفراج المشروط عن العسكريين اللبنانيين المحتجزين لديه، وذلك لقاء الإفراج عن بعض المساجين السلفيين في سجن رومية، وإخراج أسلحته الثقيلة من عرسال، ونشر قواته في المنطقة الجردية المحاذية لها داخل سورية. كلّ ذلك مقابل ترك البلدة في عهدة المتعاونين معه وسط انتشار محدود لقوات الجيش اللبناني وفق أحكام «هدنة واقعية» تناسب مصالح قوى 14 آذار من حيث حؤولها دون تمكين حزب الله من مشاركة الجيش في إنجاز انتصار عسكري وترجمته داخلياً إلى مكاسب سياسية.
في المقابل، ترفض قوى 8 آذار المؤيدة للجيش ولحزب الله في وجه «داعش» العودة بعرسال إلى ما كانت عليه قبل هجمة «داعش» الأخيرة. ذلك أن بقاء القوى التكفيرية في عرسال من جهة وعلى كتف دمشق الغربي من جهة أخرى سيبقي المشكلة عالقة بكل مفاعيلها السياسية والأمنية.
ما العمل، إذاً؟
في ضوء الحقائق الموضوعية سالفة الذكر والاحتمالات التي يمكن أن تتحقق على الأرض من خلال المخططَين الاقليمي واللبناني، أرى اعتماد مقاربة مدروسة في مواجهة التحديات والأخطار الماثلة تقوم على المرتكزات الآتية:
أولاً: التوافق الوطني العام بين الأطراف السياسية المشاركة في الحكومة والقوى الوطنية الناشطة في الحياة العامة على التعجيل في اعتماد استراتيجية متكاملة للدفاع الوطني، والمسارعة إلى تسليح الجيش اللبناني من كل المصادر المتاحة بلا تردد ومن دون مراعاةٍ لحساسيات دول الغرب الأطلسي المتحالفة مع «إسرائيل».
ثانياً: ضرب طوق عسكري محكم على منطقة عرسال ومحيطها لمنع وصول إمداد لوجستي لتنظيم «داعش»، والإعداد والاستعداد لرد اعتداءاته بالقوة والكفاءة اللازمتين، وبالتعاون مع قوى المقاومة إذا ما اقتضى الأمر، والتفاهم مع دمشق على توضيع النازحين السوريين في مخيمات خاصة داخل مناطق سورية آمنة.
ثالثاً: شنُّ هجوم شامل على قوات التنظيمات التكفيرية لطردها من الأراضي اللبنانية المحتلة وذلك فور استكمال الجيش اللبناني عديده وعدته وأسلحته اللازمة لهذه المهمة الوطنية الإستراتيجية.
رابعاً: دعوة القوى الوطنية الحية العابرة للطوائف لإقامة ائتلاف وطني عريض للتحرير والإصلاح والديمقراطية والتنمية يكون مولّداً لقيادات وطنية متقدمة ولثقافة وطنية جامعة ولمقاربة إصلاحية شاملة.
خامساً: تفاعل الائتلاف الوطني الجامع مع القوى الوطنية والقومية المماثلة في بلدان المشرق العربي من أجل استيلاد صيغة اتحادية متقدمة للنهضة والمقاومة والديمقراطية والتنمية.
هل ثمة مقاربة أفضل وأفعل؟
وزير سابق