واشنطن تستعدُّ لما بعد «إسرائيل»
فهد المهدي
الفرص التي تقدمها واشنطن إلى الكيان الصهيوني الذي أشرفت عليه منذ عام 1947 إلى الآن، وساعدته عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وهيأت له أنظمة دولية وإقليمية اعتقاداً منها أن الهيمنة «الإسرائيلية» تعني مزيداً من النفوذ الأميركي وأن كل انتصار «إسرائيلي» جديد يعني مزيداً من الانصياع للأنظمة العربية نتيجة هلع بعض القادة العرب ولجوئهم إليها للتخلص من قسوة الهيمنة «الإسرائيلية» وتقديم التنازلات في قضية الصراع العربي «الإسرائيلي»، يبدو أنها نفدت، رغم أن الكيان الصهيوني يصر على إثراء هذا الاعتقاد من خلال جماعات الضغط الصهيونية المهيمنة على السياسة الخارجية الأميركية حيال الشرق الأوسط واستدراجها إلى سياسات تخدم «إسرائيل»، مستغلة وجود الخط المحافظ المسيطر على الحكم الأميركي والذي يجعل من «إسرائيل» أكثر اطمئناناً بالنسبة إلى أمنها وبقائها، مستغلة من جهة ثانية تمركز اليهود في إحدى عشرة ولاية صناعية ومدنية، فأصواتهم تستطيع أن تؤثر في الانتخابات في هذه الولايات، لأن طبيعة العلاقة القائمة بين «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية هي علاقة تبعية وليست ارتباطاً خاصاً، رغم تبريراتها بالدفاع عن ما تسميه «دولة» وحيدة وسط بحر من العداء، من دون أن تبرر أساليب القمع الفاشية للكيان الصهيوني «الإسرائيلي» التي صنعت هذه المقولة أضحوكة وشوّهت صورتها وأدخلتها في مأزق أخلاقي وسياسي.
من يتابع اليوم النمط البنيوي القائم في الساحة الأميركية بين الذات الصهيونية والذات الأميركية، يدرك أن احتمالات ولادة ردود الفعل الشوفينية الأميركية حول التغلغل اليهودي واقعية ومنطقية، لذا ليس بعيداً بروز المسألة اليهودية في الساحة الأميركية بعد زيادة وتيرة الرفض الأميركي للنفوذ الصهيوني.
المستجدات المتلاحقة للفشل تلو الفشل للكيان الصهيوني في مغامراته العسكرية في لبنان وغزة، والتي فرضت على الولايات المتحدة الأميركية عبئاً ثقيلاً جداً لناحية التكاليف المالية والسياسية والأخلاقية، أدت إلى انشقاق استراتيجي في العلاقة الأميركية ـ «الإسرائيلية»، إذ تشير دراسات حديثة إلى تراجع الكيان الصهيوني كأولوية في قائمة النظام الأميركي، وتراجعه أكثر على قائمة النظام الدولي، فالعديد من المؤشرات تكشف أن العلاقة الأميركية ـ «الإسرائيلية» لم تعد قائمة اليوم على استراتيجية متماسكة، بل تعكس انحرافات السياسة الأميركية الداخلية، إذ تتعالى الأصوات وسط ساسة أميركا عن صلف «إسرائيل» وتعنتها وعنادها، وتعترف بحماقة القيادة الصهيونية الراهنة ومأزقها المحبط، ولم تبق هذه القيادة تلقى قبولاً في أوساط معظم صناع القرار الأميركي، وما عادوا يكترثون بمصيرهم أو بمصير دولتهم «إسرائيل»، حتى أن لدى الكثير من الشباب اليهودي الأميركي والحاخامات هذه القناعة نفسها.
تستعدّ الولايات المتحدة للنهاية الحتمية للكيان الصهيوني، فهي لن تكون قادرة على إطالة عمر هذا الكيان الغاصب ومساعدته عسكرياً ومالياً بالزخم نفسه، ولن تغامر بالألوف من مواطنيها في الحروب لأجله بعد تورطها في المستنقعين العراقي والأفغاني. فثمة تقرير أميركي عنوانه «الإعداد لشرق أوسط ما بعد إسرائيل» يخلص إلى نتيجة أن المصالح القومية الأميركية مختلفة جذرياً عن مصلحة «إسرائيل» الصهيونية، وأن «إسرائيل» راهناً هي أكبر تهديد لمصالح أميركا، إذ تمنع طبيعتها وأعمالها قيام علاقات طبيعية بين أميركا والدول العربية والإسلامية، وإلى حدّ بعيد أيضاً بين أميركا وباقي العالم ككل.
نشرت تقارير للاستخبارات المركزية الأميركية «CIA» تعرب عن شكوكها في بقاء «إسرائيل» بعد عشرين عاماً، وهذا ما عبّر عنه «كيسنجر» اليهودي أحد أهم وأبرز الباحثين السياسيين المخضرمين، ومنظّري السياسة الخارجية الأميركية ومهندسيها لعقود طويلة قائلاً: «إنّه بعد عشر سنوات لن تكون هناك» إسرائيل»» .
ترى واشنطن أن من مصلحتها الاستعداد لما بعد الكيان الصهيوني والسعي إلى الحفاظ على ما تبقّى من ماء وجهها، خاصة أن المنطقة العربية تعيش أجواء سياسية متقلبة، ما يشكل تحدياً كبيراً حول مستقبلها الجديد في المنطقة العربية للحفاظ على بقائها وأمنها زمناً أطول، فالحماقات التي يرتكبها هذا الكيان الغاصب راهناً في غزة والتي كشفت قدراته العسكرية الفشل الكبير في إنهاء المقاومة الفلسطينية، ما هو إلاّ بداية النهاية التي تتوقعها واشنطن وحلفاؤها الدوليون والإقليميون.
يبقى الاستعداد الأكبر من مسؤوليات العرب والفلسطينيين في توحيد خطابهم السياسي وتقوية مكانتهم ووجودهم على الأرض ودعم المقاومة في لبنان وفلسطين في تطوير قدراتهما لمواجهة الكيان الصهيوني، والوقوف في وجه غطرسته وتهديداته، والاستعداد مستقبلاً للورقة الخطيرة التي يعدّ لها الكيان الصهيوني بعد تيقّنه من أن بوصلة واشنطن وأخواتها الداعمين لها أضحت في اتجاه مغاير، لتشن حرباً شاملة تحدد من خلاله مصيرها تحت خيار شمشون «عليّ وعلى أعدائي».