حملة ترامب الانتخابية… هل تصبح نموذجاً متبعاً للساسة؟
الصراعات الداخلية في الحزب الجمهوري وثبات المرشح دونالد ترامب تتصدّر المشهد السياسي الأميركي، وتسجيل تراجع الاهتمام بالمرشحة هيلاري كلينتون قياساً بالفترة السابقة.
سيتناول بند التحليل آليات الحملة الانتخابية لدونالد ترامب، والتي استهزأ بها الكثيرون في بداية الأمر، لكنها طغت على استراتيجيات الحملات الانتخابية التقليدية في الولايات المتحدة. محور «استراتيجية» ترامب هو استثمار حالة القلق والغليان الشعبي ضدّ رموز السلطة الحاكمة، المؤسسة السياسية بكافة أركانها، والتي قد تصبح مثالاً يُحتذى به في الحملات العالمية المقبلة. ايضاً، سيتمّ استعراض مساعي ترامب «لتوحيد» صفوف الحزب الجمهوري وراءه بينما يرتبك منافسوه وخصومه الحزبيون لتعليل ما جرى والحدّ من سرعة اندفاعه.
التدخل العسكري الأميركي
استعرض مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية تنامي الانتشار العسكري الأميركي والكلفة المتزايدة لبند ميزانية الدفاع «عمليات الطوارئ الخارجية». واعتبر انّ العسكريين الأميركيين «يفتقرون التركيز على الأهداف المرسومة»، وذلك استناداً الى تقارير وزارة الدفاع المتتالية حول «الأداء العسكري الأميركي في حروب العراق وأفغانستان، والتي شملت أحياناً البعد المدني في تلك الأزمات». وأوضح انّ طبيعة تلك التقارير هي «بأثر رجعي، ولم تقدّم صورة واضحة أبداً لمعالم الاستراتيجية الأميركية، بل أحجمت عن ذكر التطورات السلبية بشيء من التفصيل في أغلب الأحيان… وفشلت ايضاً في رسم صورة شاملة لمسار القوى المناهضة» للتدخل الأميركي.
http://csis.org/publication/overseas-contingency-operations-oco-and-uncertain-cost-us-wars
تناول صندوق مارشال الألماني الترتيبات الجارية لدول حلف الناتو عقد مؤتمر قمة في بولندا مطلع شهر تموز المقبل، واستعرض تقارير منفصلة أعدّتها مكاتب الصندوق المنتشرة في سبعة عواصم «بروكسيل، باريس، برلين، وارسو، بوخارست، انقرة، وواشنطن العاصمة… التي ناقشت اجندات الدول المعنية، التي تشمل مروحة واسعة من الاولويات وقضايا متشعّبة». واوضح انّ «التحدّي المركزي يكمن في إبقاء دول الحلف في الشرق والجنوب متضامنة، وانّ ايّ مسعى لعقد توازن بينهما ستكون له انعكاسات على عدد من القرارات الفردية لتلك الدول». واردف انّ مجالات التعاون بين «دول الحلف والاتحاد الاوروبي… قد لا تكون ميسّرة» في نهاية المطاف.
http://www.gmfus.org/publications/national-priorities-nato-warsaw-summit
السعودية
اعتبر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى صعود نجل العاهل السعودي بقوة الى صدارة القرار السياسي بأنه يرمي الى «إعادة تشكيل الحكومة بصورة جذرية، جسّدها في إصدار 51 أمراً ملكياً» دفعة واحدة «وتزيد من تهميش ولي العهد الحالي محمد بن نايف، المفضّل لدى واشنطن»، مما حدا «بالأسواق المالية العالمية البحث في ثنايا القرارات للدلالة على ايّ تغيير في سياسة النفط السعودية»، لا سيما أنّ تعيين وزير النفط الجديد، خالد الفالح، يمكّن محمد بن سلمان من «ان يضع استهداف إيران نصب عينيه». واضاف المعهد انّ الامير الشاب «قد يستهدف في المستقبل القريب الأمير متعب بن عبدالله… الحليف الوثيق لمحمد بن نايف، واستيعاب «الحرس الوطني» في وزارة الدفاع» التي يترأسها. وحذر المعهد من انّ «السياسة العنيدة لمحمد بن سلمان ستؤدي إلى عواقب دولية كبيرة، فضلاً عن أنها ستقلّص الى حدّ بعيد من نفوذ الولايات المتحدة في الرياض».
http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/saudi-kings-son-drastically-reshapes-government
بينما اعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية صعود محمد بن سلمان قد حظي «بدعم وتأييد الجيل الناشئ الذي يعوّل عليه كأحد عناصر التغيير»، مستدركاً انّ النتائج الأولية تشير الى انه «لم يستطع ان يحقق ايّ نتائج ملموسة تضفي عليه بعض المصداقية». واردف انّ محمد بن سلمان اتخذ قرار الحرب على اليمن والتي «تدور رحاها دون أفق وأطول مما تكهّن بها ايّ شخص مسؤول… ما سيؤدي بكبار العائلة المالكة إلى التوجه ربما لتقويض فرص نجاحاته». وختم بالقول انّ الخطة الاقتصادية الطموحة التي أعلن عنها محمد بن سلمان «مثيرة للاهتمام، بيد انّ مهارة إدارة أبعادها السياسية ستشكل اختباراً حقيقياً».
http://csis.org/publication/saudi-change-slow
تونس
استعرض معهد كارنيغي مضمون «وثائق بنما» الخاصة بتورّط عدد من «السياسيين ورجال الأعمال التونسيين في تهريب ثرواتها «خارج البلاد»، والتي تناولتها نحو 8000 وثيقة مفرج عنها. واوضح انّ الشعب التونسي «لم يعر الأمر اهتماماً في بداية الأمر… نظراً لاعتبارهم آفة الفساد جزءاً عادياً ومبتذلاً في المعاملات اليومية مع بيروقراطية الدولة واعتبر نحو 60 منهم انّ الفساد ازداد خلال العام المنصرم». بيد انّ القوى السياسية الأخرى رأت انّ الوثائق تشكل «فرصة للدفع باتجاه إجراء إصلاحات حقيقية»، في ظلّ الكشف عن سعي مدير حملة الباجي قائد السبسي الانتخابية، محسن مرزوق، تبادل رسائل مع شركة «موساك فونيسكا… يستفسر فيها عن إجراءات تأسيس مصالح تجارية في الخارج»، مطلع شهر كانون الاول/ ديسمبر 2014. كما أشار المعهد الى تورّط حركة النهضة عبر قناة «تي ان ان» التلفزيونية، بالتزامن مع «تراجع راشد الغنوشي عن تصريحاته السابقة للكشف عن التسريبات بأنها سوف تغيّر المشهد السياسي في البلاد». وأثنى المعهد على سعي «الهيئات الحكومية التونسية، ولجنة تقصِّ برلمانية، إجراء تحقيقات بهذا الشأن… واستحضار كلّ من يثبت تورّطه في المخالفات امام العدالة».
http://carnegieendowment.org/sada/?fa=63558 mkt tok=eyJpIjoiTURRek1qTTRaRGN4WkdFNSIsInQiOiJrTGVMTmpCVmYwT3JWM1V4WVg1UWE0aVZnOXJIcW16NDNFdytrdlhTRDJ0Y2VhcVwvTTN3SHI4aU9MNHdRNlg3enRrMytGYXBNTmN1QlZUSVV6blFneDhQTWEzczB4aUpkbkJ1bkZYR3kxUGM9In0 3D
إيران
عاينت مؤسسة هاريتاج «التداعيات الإقليمية الخطرة» الناجمة عن الاتفاق النووي مع إيران معتبرة «مشاعر الرضا السلبية» لعدد من السياسيين الأميركيين من شأنها «عكس مواطن الضعف في المواقف والتي قد تحفز معسكر المتشدّدين في إيران تقويض المصالح الوطنية الأميركية، وتحطيم معنويات حلفاء الولايات المتحدة في الاقليم». ووجه سهام انتقاداته لسياسات البيت الأبيض التي «تمّ تفسيرها بأنها تخلت عن حلفائنا العرب التقليديين، دون القدرة على إنشاء منظومة أمنية موثوق بها في الإقليم لاحتواء وفرض التراجع على إيران». وأردف انّ الاستراتيجية المقبلة بانتظار الإدارة المقبلة لاتخاذ تدابير «تخفف من وطأة الخطر في الشرق الأوسط الذي ورثناه عن الإدارة الراهنة». وحثت المؤسسة الكونغرس الأميركي تصدر الجهود «لإقناع طهران وحلفاء الولايات المتحدة بأنّ إيران ليس لديها بطاقة دخول مجانية لبسط هيمنتها على الاقليم».
http://www.heritage.org/research/reports/2016/05/the-dangerous-regional-implications-of-the-iran-nuclear-agreement
التوتر في اوراسيا
حذرت مؤسسة هاريتاج من ان يؤدّي اندلاع الاشتباكات المسلحة الأخيرة بين اذربيجان وأرمينيا الى «زعزعة استقرار اوضاع هشة في الإقليم… خاصة في ظلّ بروز إيران كإحدى القوى في منطقة أوراسيا، وتعتبر انّ لديها خاصية في منطقة جنوب القوقاز». وأوضح انّ الاتفاق النووي المبرم «سيترك بصماته مباشرة على السياسة الإيرانية في المنطقة في مجالات أربعة: أولا، توفر إمكانيات مادية كبيرة لديها ثانياً، ستتمكن إيران من ممارسة درجة أكبر من الاستقلالية عن موسكو التي وفرت لها غطاء سياسياً على الساحة العالمية ثالثاً، تزهو إيران بإنجاز الاتفاق النووي كانتصار ديبلوماسي، ويمكن تكراره لتعزيز المصالح الإيرانية في مناطق أخرى من العالم رابعاً، شنّت إيران سلسلة من الإجراءات الاستفزازية لاثبات عدائها للولايات المتحدة وحلفائها، وستبقى إيران مصدر قلق أمني كبير وأشدّ عدوانية منذ توقيع الاتفاق».
http://www.heritage.org/research/reports/2016/05/four-new-reasons-why-the-us-must-stay-engaged-in-the-south-caucasus
كما استعرض معهد أبحاث السياسة الخارجية تجدّد الصراع المسلح بين اذربيجان وأرمينيا، معتبراً انّ «أسوأ نتيجة لذلك الصراع هو تقوقع قادة البلدين خلف أسوار خطابهم السياسي، والتشديد على وعودهم بتحقيق نصر مؤزّر على الآخر لا يمكن تحقيقه في الأفق المنظور». وأضاف انّ الطرفين «استخدما الوضع الراهن المتوتر كسلاح لدرء الإجابة عن الأسئلة الصعبة حول مسألة الشرعية أو لحرف أنظار شعبيهما عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية». واردف انّ عدداً من المنظمات الأهلية والشخصيات الوطنية برزت في أذربيجان تنادي بتسوية سلمية للصراع «لكن الآلة الإعلامية حاصرتها واتهمتها بإلحاق العار» في مسار البلاد.
http://www.fpri.org/2016/05/nagorno-karabakh-conflict-entrenched-nationalistic-propaganda/
تركيا
اعتبر معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى تقديم رئيس الوزراء التركي، احمد داوود اوغلو، استقالته بأنها «تجسيد لتكثيف السلطات بين أيدي الرئيس رجب اردوغان»، والذي من المتوقع ان يسعى لاستصدار قرار من المؤتمر العام المقبل لحزب العدالة والتنمية «لإعداد استفتاء يترجم رغبته في تعديل الدستور التركي يلبّي طموحاته بتجسيد سلطة تنفيذية ورئاسة مطلقة… محاججاً انّ جذوره تمتدّ عميقاً في تاريخ البلاد».
http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/turkeys-king-erdogan-after-davutoglu
ترامب: من يدعمه؟
يتشاطر الساسة والمراقبون والناخبون الرغبة بفك لغز المرشح دونالد ترامب وصعوده «المبهر والمفاجئ» للعديد من التوقعات، وهو الذي حصد ولا يزال كماً هائلاً من السخرية والتندّر لتصدّره المشهد السياسي وإطاحته بكافة منافسيه في فترة زمنية قياسية بل لما ستؤدي اليه حملته من شرخ وربما تفسّخ في صفوف الحزب الجمهوري بصورته التقليدية.
من أهمّ العوامل المساعدة تبرز الوسائل الإعلامية، والقنوات المتلفزة بشكل خاص، لإتاحتها فرصاً ثمينة وبعضها مجانية للمرشح ترامب لنفث سمومه ضدّ كافة القطاعات الاجتماعية، دون أدنى قيد أو ضبط لسان. ليست المرة الأولى التي «تتعاون» السلطة الإعلامية برمّتها والاصطفاف الى جانب المؤسسة الحاكمة، وهي التي تشكل مكوّناً حيوياً من مكوّناتها غير قابل للانفصال. بيد انّ المسألة جديرة بالدراسة الموسعة للتوقف عند دور «السلطة الرابعة» في تبنّي ونشر الخطاب السياسي «المركزي» وإقصاء الآخرين خدمة للاستراتيجية العليا في التوسع والهيمنة والتبعية.
قبل الولوج في حملة ترامب الانتخابية تجدر الإشارة الى تكوّن شبه إجماع في الرأي العام، مؤسسات وقادة سياسيون ومراقبون من شتى الأطياف، لماهية شخصية ترامب ونزواته. وقد أوجزت أسبوعية «ذي نيشن» خصال ترامب بالتالي: يغرق في أوهام العظمة مخادع ومنافق يتلاعب بالحقائق عن قصد عنصري أناني يطرب للتبجيل ملياردير شبه فاقد لأيّ إدراك لطبيعة السياسات الخارجية والداخلية كمؤهل لتبوؤ منصب رئيس الولايات المتحدة. ونضيف انّ تلك «الخصائص» يشترك بها عامة الساسة الأميركيين في العصر الراهن، وانْ اختلف الاسلوب وتراوح بين عنصري فجّ وسلاسة الكلام.
تاريخ الدولة الأميركية مليء برؤساء وساسة تحوم حولهم الشبهات، الأّخلاقية والعملية على السواء، بيد انّ حملاتهم الانتخابية شهدت بعض التميّز في الحقبات التاريخية المتعدّدة نسوق هنا مثال الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون وسلفه ليندون جونسون، اللذين تركا بصماتهما على المشهد السياسي لعقود متعدّدة.
الحملات الانتخابية الناجحة، بصرف النظر عن الانتماء الحزبي، تستدعي بلورة حضور سياسي مبكر وحسن إدارة واستقطاب قواعد جماهيرية متعدّدة المشارب، وتأطيرها في أطر منظمة، تسخر الاستفادة الى أقصى الحدود من وسائل التقنية المتاحة، لا سيما استطلاعات الرأي المتخصصة كي تعينها على صقل خطابها لقطاعات بعينها.
كما انّ هناك اجماعاً بين المراقبين للمشهد السياسي على حسن استخدام الرئيس أوباما تلك الأدوات ابان حملتيه الرئاسيتين، 2008 و 2012، والفوز على خصمه المرشح الجمهوري ميت رومني، في الحالة الثانية، لا سيما جهود استقطاب قطاعات جماهيرية قلّ ان تشارك في الانتخابات.
نظرة سريعة على طبيعة الحملات الانتخابية في المشهد الراهن تشير الى تطبيق واسع للمواصفات الواردة أعلاه، بيد انّ نتائجها تراوحت بين ضئيلة كلينتون الى مخزية جب بوش وتيد كروز على الرغم من الأموال الطائلة التي أنفقت عليها.
الشاذّ عن تلك القاعدة، في الحزب الجمهوري، هو دونالد ترامب والى حدّ بعيد منافسه عن الحزب الديمقراطي بيرني ساندرز. ترامب، من جانبه، رفض الانصياع لاستطلاعات الرأي الأولية وأسلوب نمطية التوجه لقطاعات اجتماعية محدّدة، وإنشاء آلية عمل تواكب الحملة الانتخابية عينها، وتسبقها في بعض المحطات. وفازت نظرته على كافة منافسيه وبأدنى كلفة بصرف النظر عن ثرائه الشخصي.
يتبادر الى الذهن استفسار مشروع حول قدرة ترامب الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة مستخدماً ذات الآليات سالفة الذكر التي وفرت له فوزاً متتالياً في الانتخابات التمهيدية. وقد أوضح ترامب معالم استراتيجيته المقبلة لوكالة «أ بـ« للأنباء انه سيلجأ لحشد تجمّعات انتخابية كبيرة، اينما استطاع، ودعوة وسائل الإعلام لتغطيتها في مواجهة منافسته المحتملة، هيلاري كلينتون.
بعبارة اخرى، لا ينوي ترامب المراهنة على استطلاعات الرأي بكافة تلاوينها لطلب دعم الناخبين او إنفاق مزيد من الأموال عليها، اذ انّ «أفضل الاستثمارات هي في التجمّعات العلنية… المشاركون يعودون لمنازلهم وإبلاغ أصدقائهم بالمتعة السياسية. كانت إيجابية حتى الآن».
واضاف انه ينوي الاقتصاد في الإنفاق على المؤشرات الانتخابية والسيناريوات المتعدّدة لكسب العدد «السحري» من أصوات «الكلية الانتخابية»، التي تشترط حصول الفائز على 270 صوتاً من مجموع 535 من إعضائها لنيل مصادقتها على الترشيح وإعلان الفوز. في المقابل، تسير المرشحة هيلاري كلينتون بخطوات حثيثة في الاتجاه الآخر لتطبيق معالم حملات منظمة بدقة، والتي طبّقها بنجاح الرئيس أوباما في حملتيه السابقتين، وتنوي توظيف عدد من رموز تلك المرحلة في مسارها الراهن.
عند هذا المنعطف، ينبغي الانتباه إلى دور المال الوفير في الحملات الانتخابية، خاصة بعد رفع المحكمة العليا كافة القيود والضوابط السابقة على حجم وكمّ ووجهة التبرّعات. منظمات معينة هدفها الأساسي جمع التبرّعات تملأ المشهد السياسي على جانبيه، الجمهوري المحافظ والديمقراطي بأجنحته المتعدّدة. أحدها، غريت أميركا، أعلنت تأييدها لترامب متوعّدة بمواجهة الشق البحثي والبيانات الخاصة بالناخبين التي تتحكّم بها معاهد استطلاعات الرأي. علاوة على ذلك، يمتلك الحزب الجمهوري آلياتها الخاصة المتطورة لجمع وتمحيص وتحليل البيانات، في مواجهة الآلية المتطورة ايضاً لخصمها الحزب الديموقراطي.
زها ترامب مطلع الاسبوع الماضي بأحدث استطلاعات الرأي التي رأت ثلاثة مؤسسات مختصة بأنّ الفارق بينه وبين السيدة كلينتون يتضاءل باضطراد، وربما سيتلاشى مع مرور الزمن.
اما في بعض الولايات «الحرجة»، بالغة الأهمية لفوز ايّ من المرشحين، اوهايو وبنسلفانيا وفلوريدا، فقد أظهرت استطلاعات الرأي انّ الفارق بين ترامب وكلينتون لا يتعدّى 2 ، والتي عادة ما تحسب ضمن نسبة احتمال الخطأ في علم الإحصاء.
ما تقدّم من ملامح حملة ترامب الانتخابية قد يجد أرضاً خصبة لتبنّيها، او بعض خصائصها، في دول أخرى، لا سيما في دول الاتحاد الاوروبي، كما جرى مع رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير في استنساخ أهمّ خصائص حملة الرئيس بيل كلينتون، مطلع التسعينيات.
في شقّ التكلفة المادية، ونظراً لاتساع الرقعة الجغرافية في أميركا، أصبح من المعتاد صرف كلّ من المرشحيْن ما ينوف على مليار دولار، كما فعل الرئيس أوباما في حملته الثانية، في إدارة حملة تقليدية تستند الى البيانات واللوائح الانتخابية. فما بال حال ترامب الذي ينفق مبالغ زهيدة بالمقارنة ويمضي من فوز الى آخر.
العامل الانتخابي المشترك ايضاً بين شطي المحيط الأطلسي هو النبض الشعبي العام، إذ استثمر ترامب حالة الغضب والإحباط من المؤسسة الحاكمة الى أبعد حدّ ممكن وخاطب مناصريه ارتجالياً ودون خطابات معدّة مسبقاً او ضوابط أخرى، مما يضع المراقبين ووسائل الإعلام على السواء في حالة ترقب لما قد يصدر عنه من مواقف فورية. حقيقة الأمر انّ خطاب ترامب السياسي، رغم هشاشته الفكرية وعدم استقامته السياسية، يلقى آذاناً صاغية في المجتمع، يطرب له مؤيدوه والذين لا يجرؤ بعضهم على التفوّه بآراء مشابهة او متطابقة.
في سياق استطلاعات الرأي، سجلت المؤسسات المعنية بقياس النبض الشعبي إحجام أعداد متزايدة من الناخبين عن المشاركة في تلك الاستطلاعات، الأمر الذي يضع عقبات إضافية امام الاستراتيجيات الانتخابية التقليدية للتوقف عند الميل العام. وهناك مؤشرات حية على إحجام قطاعات من الناخبين في دول مثل فرنسا التقيد بقواعد اللعبة التقليدية، والاتعاظ بتجربة ترامب الخالية من ايّ قيود، مما دفع الحزب اليميني «الجبهة الوطنية» الى واجهة المشهد السياسي بصرف النظر عن حظوظه في الفوز الحاسم.
رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، أشاد بحملة ترامب ونجاحاته المتعدّدة، رغم تصريحاته السابقة المناهضة لمواقف ترامب. وقال كاميرون «ايّ فرد يستطيع تحمّل السباق الرئاسي غير العادي، وترؤس حزبه للانتخابات العامة، يستحق احترامنا بكلّ تأكيد».
عمدة بلدية لندن المغادر لمنصبه، بوريس جونسون، يتزعّم بصورة غير رسمية الحملة الشعبية المطالبة بخروج بريطانيا من قيود الاتحاد الأوروبي، وأعرب عن مناهضته لتصريحات ترامب خاصة تلك المتعلقة بفرض قيود على المسلمين. بيد انّ الآلية التي يوظفها جونسون لتحقيق هدف الخروج تحمل بصمات ميدانية من حملة ترامب، خاصة في بعد استثمار الغضب الشعبي المناهض لهيمنة بروكسل على القرارات الاوروبية في مشهد مواز لمناهضة مؤيّدي ترامب للسلطة المركزية في واشنطن. كما انّ الناخب البريطاني ينتابه القلق من مسألة تزايد المهاجرين وقضايا أخرى تحمّل مسؤولية التدهور للمؤسسة الحاكمة.
في هذا الشأن، ينفق المعسكر البريطاني المؤيّد للبقاء في الاتحاد الاوروبي أموالاً طائلة لتسويق برنامجه، بمعدلات تفوق ما ينفقه الفريق الآخر كثيراً. استطلاعات الرأي البريطانية تشير الى تفوّق الفريق الأوروبي بنسبة ضئيلة، حتى اللحظة.
وتجد استراتيجية ترامب أصداءها أيضاً في ايطاليا التي تتنامى فيها حركة مناهضة الاتحاد الأوروبي، يتزعّمها رئيس «العصبة الشمالية»، ماتيو سالفيني الذي التقى ترامب شخصياً الشهر الماضي في فيلادلفيا وخلال انتخابات بنسلفانيا التمهيدية. تشير الاستطلاعات الأولية انّ «العصبة الشمالية» تتمتع بدعم شعبي يتراوح بين 15 الى 30 في شمالي البلاد والتي تضمّ مدينة ميلانو الأكبر حجماً وثراء في إيطاليا.
قد يشكل صعود ترامب إلهاماً لزعامات طموحة رغم تواضع قدراتها في بلدان خارج الجغرافيا الأميركية.
أزمة الحزب الجمهوري ذاتية
بداية، تباينات قيادة الحزب الجمهوري تنتمي لتيار المحافظين الجدد والمحافظين الأشدّ عنصرية، وغاب عن المشهد ايّ صيغة «معتدلة» حتى بمقاييس الحزب نفسه، ناهيك عن شخصيات تتمتع بالرؤية والخبرة الدولية.
في ذروة انتصاراته الانتخابية، أقدم دونالد ترامب على استحداث عملية اغتيال الرئيس الأسبق جون كينيدي في الوعي الجمعي «بالزعم» انّ والد المرشح تيد كروز، رافائيل «متورّط مع الجاني لي هارفي اوزوالد في اغتيال الرئيس كنيدي». ربما نفخ ترامب في هذه الزاوية من باب الاجتهاد للنيل من منافسه الذي كان يتوعّده بجولة قاسية داخل المؤتمر الحزبي.
بيد انّ «الاتهام» قد يخرج من باب التكهّن الى حيّز المعلومات. اذ أقدم المرشح تيد كروز على الانسحاب من السباق مباشرة بعد توجيه ترامب الاتهام إلى عائلته، ورغبة «المؤسسة الأمنية» إقفال الباب سريعاً على إعادة فتح ملف الاغتيال، كما يُعتقد، بعد تسييجه بجدار سميك من السرية لما ينوف عن نصف قرن من الزمن، بمباركة الإدارات الرئاسية المتعاقبة.
لسنا في معرض الخوض في حقيقة الاتهام، وان كان البعض يرجح مصداقية بعض جزئياته، لا سيما انّ ترامب استند الى مقالة نشرها ضابط الاستخبارات السابق في «سي أي آي»، واين مادسين، منتصف شهر نيسان الماضي، يلقي فيها مزيداً من الضوء على تورّط وكالة الاستخبارات المركزية وعملائها من أصول كوبية المقيمين في فلوريدا والولايات الجنوبية، ومنهم رفائيل كروز الذي جمعته بأوزوالد صورة فوتوغرافية منشورة قبل عملية الاغتيال.
الهدف كان إضاءة بعض «خفايا» الصراعات الحزبية في قيادة الحزب الجمهوري، مقابل ما يمثله ترامب، والتي يرجح إنها مارست ضغوطاً شديدة وقاسية على المرشح تيد كروز لإعلان انسحابه غير المتوقع في العرف الانتخابي. ومن ناحية أخرى وربما الأهمّ موقع ترامب «صعب المراس والتنبّؤ» في صفوف الحزب الجمهوري. وعليه، سارع رئيس الحزب، رينس بريباص، إلى الإعلان عن انّ ترامب أضحى مرشح الحزب «المفترض»، وهو الذي تصدّر سابقاً الحملة الواسعة لإقصاء ترامب وإيجاد البديل داخل أروقة المؤتمر لقطع الطريق على ترشح ترامب.
اضطراب قيادات الحزب الجمهوري خرج من باب التكهّنات الى العلن، وانتهت الجولة الاولى بطلب قيادات الكونغرس ودّ ترامب ولقاءه في مبنى الكونغرس نهاية الأسبوع الماضي.
بعض القيادات النافذة، آل بوش مثلاً، رفضت دعم او تأييد ترامب، كما صرّح بذلك علناً المرشح السابق جيب بوش، وتلاه الأب والأخ جورج بوش. عند هذا المفصل الهامّ تنبغي إعادة النظر بشكل جادّ بالاتهام الذي ساقه ترامب للمتورّطين باغتيال الرئيس كينيدي، علماً انّ بوش الأب له باع طويل في تبنّي عملاء وكالة الاستخبارات المناهضين للرئيس الكوبي فيديل كاسترو، وكذلك بعد ان أصبح رئيسا و«نجاته» من خيوط فضيحة إيران كونترا.
في المقابل، شعبية ترامب في ازدياد مضطرد كما أوردتها شبكة ان بي سي للتلفزة استناداً الى استطلاع للرأي نظمته حول المسألة. وقالت انّ نحو 85 من الناخبين الجمهوريين والذين يميلون لدعم مرشح جمهوري سيصوّتون لصالح ترامب، بالتزامن مع تتويجه لنجاحاته الأخيرة قبل انعقاد مؤتمر الحزب.
أمام هذا المشهد المليء بالمفاجآت من مرشح «تصعب السيطرة عليه»، ستدنو بقية قيادات الحزب الجمهوري تدريجياً نحو ترامب وتأييده في الانتخابات العامة المقبلة ضدّ منافسته هيلاري كلينتون. لا شك انّ قلة من اولئك القادة والنخب الفكرية سيترفّعون عن تأييد ترامب تحت ايّ ظرف كان، بيد انّ ما تبقى من هيبة وآلية الحزب الجمهوري ستصطف خلفه، لا سيما انّ كلينتون تعاني من عزلة داخل قواعد الحزب الديمقراطي وإقلاع قطاعات معتبرة من الناخبين عن تأييدها.
يُضاف الى ذلك عامل إمكانية تقديمها للمحاكمة على خلفية مراسلاتها الالكترونية إبان فترة توليها وزارة الخارجية بمعزل عن الإجراءات المتبعة، كما يشيع خصومها. في هذه الحالة، قد يبرز المرشح بيرني ساندرز مرشحاً عن الحزب الديمقراطي في مواجهة دونالد ترامب. الخارطة الانتخابية تشهد تبدّلات وانقلابات متعدّدة في معظم مراحل الانتخابات العامة السابقة: ديمقراطيون لدعم رونالد ريغان جمهوريون «قد» يصطفون لمعسكر كلينتون نكاية بمرشح الحزب الجمهوري المنتظر.
المفاجآت السياسية على الأبواب ومفتوحة على عدة احتمالات. العبرة في العمل السياسي، كما القول الأميركي المأثور «أسبوع من الزمن يمثل دهراً في السياسة».