في «إصلاح» الشرق الأوسط أو تخريبه: ما لا تستطيعه أميركا يستطيعه حلفاؤها…

د. عصام نعمان

جيمس كلابر هو مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية. يشرف، بحكم منصبه، على 17 جهازاً استخبارياً في الولايات المتحدة، ما يجعله أبرز رموز «الايستبليشمانت» Establishment أو المؤسسة الحاكمة التي تدير البلاد أثناء فترة انتقال السلطة من الرئيس الحالي باراك أوباما إلى الرئيس المقبل هيلاري كلينتون الديمقراطية أو دونالد ترامب الجمهوري .

الفترة الانتقالية تبدأ، سياسياً، مع انعقاد مؤتمرَي الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري خلال شهر حزيران/ يونيو المقبل لاختيار مرشح كلٍّ منهما للرئاسة وتنتهي، عملياً، في 20 كانون الثاني /يناير المقبل، يوم يتسلّم الرئيس المنتخب سلطاته الدستورية. لكن الرئيس الجديد يلزمه نحو ثلاثة أشهر للإحاطة بأوضاع الإدارة ومتطلباتها التنظيمية والسياسية، وتعيين كبار مساعديه من وزراء ومستشارين وسفراء ومديرين، ووضع الترتيبات اللازمة لتنفيذ سياساته وخططه في مختلف الميادين. خلال الفترة الانتقالية يكون الحكم، عملياً، في عهدة «الايستبليشمانت»، أيّ في عهدة طليعها مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر.

لأنّ له هذا القدْر من السلطة والنفوذ، أجرى معه قبل أيام الكاتب الصحافي المرموق ديفيد اغناطيوس مقابلة في صحيفة «ذي واشنطن بوست» كشف خلالها الخطوط العريضة لما ستكون عليه أوضاع العالم، ولا سيما الشرق الأوسط، غداةَ تسلّم الرئيس الأميركي الجديد سلطاته. لعلّ أهمّ ما كشفه كلابر يتعلّق بحاضر تنظيم «الدولة الإسلامية – داعش» ومستقبله ودور الولايات المتحدة حياله كما حيال القضايا والتحديات الأخرى.

في المقابلة أكّد كلابر أنّ «داعش» سيفقد مدينة الموصل. متى؟ قال: «إن ذلك سيأخذ وقتاً طويلاً ولن يتمّ خلال إدارة أوباما». أكثر من ذلك، قدّر أنه بعد هزيمة «المتطرفين» في العراق وسورية، «ستظلّ مشاكل الشرق الأوسط قائمة، وأنّ «داعش» فقد كثيراً من الأرض والمقاتلين، إلاّ أنّ الصراع العام مع المتطرفين سيستغرق عشرات السنين».

حرص كلابر على الدفاع عن رئيسه أوباما. قال إنه يتفق معه في رؤيته بأن الولايات المتحدة لا تستطيع وحدها إصلاح الأوضاع في الشرق الأوسط. ألا يعني هذا الكلام، ضمناً، أنها لا تستطيع وحدها أيضاً تخريبها؟ لم يُشر كلابر إلى مَن يستطيع منافسة أميركا في «إصلاح» أوضاع الشرق الأوسط أو التعاون معها في هذا السبيل. كذلك لم يُشر إلى مَن يستطيع تخريبها بالتعاون معها أو، ربما، بالرغم منها. لم يفعل لأنّ كثيرين، أبرزهن هيلاري كلينتون، عضو مجلس الشيوخ ووزيرة الخارجية سابقاً، كانت كشفت أنّ الولايات المتحدة «خلقت» تنظيم «القاعدة» وموّلته ودرّبت عناصره لمقاتلة القوات السوفياتية أثناء وجودها في افغانستان. قبلها قال قائد الأطلسي الجنرال لسلي كلارك الكلام نفسه. حتى ترامب أشار أيضاً إلى شيء من هذا القبيل بشأن «داعش» أثناء حملته الانتخابية.

الى ذلك، طمأن كلابر حلفاء الولايات المتحدة إلى أنها لن تترك المنطقة، بل جزم أنها لا تستطيع ذلك. لماذا؟ «لأنها يجب أن تكون حاضرة لتقدّم المساعدة وتتوسط وتقدّم القوة في بعض الأحيان». لم يقل إنها كانت دائماً تقدّم القوة والسلاح لإسرائيل في حروبها. لعله أراد القول إنها قد تقدّم القوة أو الموافقة، في الأقلّ، على قيام تركيا بشن حرب على «داعش» داخل سورية بغية احتلال مساحة واسعة من أراضيها وتحويلها «منطقة آمنة» بذريعة إيواء النازحين السوريين.

بدعوى «أنّ أميركا لا تستطيع وحدها إصلاح أوضاع الشرق الأوسط»، تغاضت واشنطن عن تنامي «داعش» انطلاقاً من الموصل وصولاً إلى تواجده في معظم محافظات العراق الغربية وتنظيمه مجازر متنقلة في قلب بغداد ومحيطها ومدن أخرى.

رجب طيب أردوغان استفاد من تغاضي واشنطن، وتغاضيه هو تحديداً، عن «داعش» طيلة سنوات ثلاث كان التنظيم الإرهابي خلالها يهرّب الرجال والعتاد والنفط عبر حدود تركيا مع العراق وسورية ليبني «دولة الخلافة» على مساحة من الأرض تتجاوز مساحة بريطانيا. لكن أردوغان يتذرّع اليوم بقذائف يطلقها «داعش» على مدينة كيليس التركية الحدودية ليهدّد بالتوغل داخل سورية لتأديبه ولإقامة… المنطقة الآمنة الموعودة.

«داعش» بات حقيقة وذريعة. فهو من جهة حقيقة عسكرية وسياسية وإعلامية متنامية تهدّد جدّياً مَن يعتبرهم التنظيم أعداء له، وهو من جهة أخرى ذريعة عسكرية وأمنية جاهزة للاستغلال من قبل «أعدائه» أنفسهم ضدّ أعداء آخرين هم، في الواقع، أعداء الطرفين معاً!

يعدّد كلابر المشاكل الرئيسية التي يواجهها وسيواجهها الشرق الأوسط: التحديات الاقتصادية، توافر السلاح، الزيادة الكبيرة في عدد الشباب المهمّشين، والمناطق المتعدّدة التي لا توجد فيها سيطرة حكومية لمدة طويلة.

لعلّ أبرز التحديات الاقتصادية تدنّي سعر النفط وبالتالي تناقص عائداته لدى الدول المنتجة. يقول كلابر إنّ أميركا ليست الآن بحاجة إلى الشرق الأوسط اقتصادياً. لماذا؟ ربما لأنها باتت مكتفية ذاتياً بعد اكتشافها النفط الصخري والقدرة على استثماره وتصديره. لكن، أليس تناقص عائدات النفط مشكلة ستزداد حدّة مع حاجة دول الخليج المنتجة للمزيد من المال لشراء المزيد من الأسلحة لاستخدامها في حروب إقليمية، ولا سيما حرب اليمن؟

ليست دول الخليج وحدها من سيكون بحاجة إلى المزيد من العائدات لشراء المزيد من السلاح. إيران وحتى روسيا ستكونان بحاجة أيضاً إلى مزيد من الأموال لتوفير المزيد من الأسلحة. ها هي أميركا تقوم بتركيز منظومة الدرع الصاروخية في رومانيا وسط اعتراض وغضب شديدين من روسيا. كانت واشنطن تقول إنّ المُراد منها مواجهة إيران وبرنامجها النووي. لكن واشنطن وطهران توصلتا إلى اتفاق نووي يجعل أميركا وحلفاءها بمأمن من خطر نووي إيراني، فلماذا الإصرار على تركيب منظومة صاروخية متطوّرة في رومانيا على مقربة من حدودها مع روسيا؟ هل تشكّل روسيا خطراً على أمن رومانيا أو على أمن حلف «الناتو» وسائر أعضائه الأوروبيين؟

كلا، لأنّ الغاية من إدخال المنظومة الصاروخية المتطورة هي إكراه روسيا، وإيران أيضاً، على ولوج سباق تسلّح مُكلف للغاية يؤدّي إلى إرهاق الخزينة الروسية والإيرانية وتالياً إلى إضعاف روسيا بما هي القطب المرشح ليكون نداً للولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط.

لعلّ التسمية اللائقة بهذه السياسة الأميركية القديمة – الجديدة هي المشاغلة. أجل، مشاغلة منافسي أميركا الحاليين وأعدائها المحتملين بسباق تسلّح مرهق اقتصادياً، وبتنظيمات إرهاب وحشية مرهقة أمنياً واجتماعياً بقصد إضعافهم وتقليص خطرهم على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، ولا سيما في الشرق الأوسط الكبير.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى