«افتراضياً»… الرغبة في المرويّات أكثر أماناً!
النمسا ـ طلال مرتضى
علّمني الماغوط أن «أخون وطني» بإرادتي، فمنذ الآن لن أسكت، هو من حرّضني على لملمة الأفكار الهاربة من سجون الشعراء الخاملين، الذين تاهوا وهُم في بحثٍ عن المعنى. قال في مقتضب الكلام: «كما يحقّ للشعراء كسر أيّ بيتٍ من بيوت الشعر للضرورة خلافاً لسواهم، سأكسر القاعدة والقواعد التي أريد لضرورة النثر».
على «كيبورد» الكلام، تستحيل الأصابع سيّالة تنقل لواعج الروح ودوالّها. كنت أراقب عن كثب كيف تسيل حروفي من دون سلطة حبرٍ عبر سلك البرق. لبرهةٍ، كانت سبابتي تتّجه نحو زر «ديليت» ـ المحو، بعدما تبادر إلى ذهني أنّ الكلام الذي نرسله عبر الشابكة يمرّ سريعاً من دون حواجز. ما الذي دهاني وأنا أتماهى مع حبيبتي البعيدة؟ نحاول جاهدين ملء الحروف أن نوحّد لهاث رغباتنا، أسمعه، تسمعه، إلى أن يعلو صهيل الآه… لتلحق بها آه أخرى وأخرى.
«مطارحة الحبّ عبر الشابكة ليس حراماً». في مرويّة «مقصلة الحالم» كنت أتساءل ماذا لو التقى «خالد» و«سعاد» وجهاً لوجه في غرفة ما؟ هل ستكون هناك علاقة لم نألفها أكثر حميمية من تلك العلاقة التي كانا يمارسانها عبر الشابكة؟
يا الله ما أجمل أن يعيش المرء إنسانيته من دون قيود، بالطبع خرجت من بين شفاهي ابتسامة استهجان مدغمة بسؤال مقيت: لعلك تودّ حشر أنفك حتى خارج الرواية في ما يدور بين «سعاد» و«خالد»؟
طردت الفكرة قبل أن أزفر الجملة الأخيرة وأنا ألقّمها فم الشابكة الذي لا يشبع، ماذا دهاك أيها المعتوه؟ الكلمات التي ترسلها تنام في سلك البرق مثل سرب حمام أعياه المسير، وقد تقع في شباك قرصان متمرّس يحوّلها إلى فضيحة، انتبه…
أليس لقرصان الحكي إنسانية يعيشها؟ ضغطت «إنتر» من دون تفكير، الكلام المرسل يصير ماءً أصفر الرغبة، في الجهة المقابلة، تناهى إلى مسمعي عبر آلة السمع نهنهات حبيبتي، انبجس الكلام في رأسي الفائر إلى صورٍ حالمة، كانت إصبع من حريق تطفئ بركان حلمة انتصبت كغزال متوجّس!
الآن أيقنت لماذا أراد الماغوط كسر القاعدة والقواعد لضرورات النثر، هو النثر لا يستقيم إلا بكسره. فالحبكة المنتقاة تجيز للسارد الوقوع في شبهة المعنى ودوالّه، وتلك دعوة لنعيد الأشياء إلى نواصيها. ماذا لو تركنا الحلم الورديّ من دون إضافة تاء مربوطة في آخره؟ لربما نجد أننا فقدنا جلّ تفاصيله. لا لإثبات واقعة، بل هي لحظة عابرة، فليتلمّظ كلٌ منكم بطرف لسانه مذاق الحليب، أصل الحكاية تلك التاء المربوطة العالقة في نهاية كلمة «حلم»!
أمس، وأنا أعبر الوقت من دون مبالاة، انتابني حدس لئيم. تحسّست بخبث «كايبل إنترت» عابراً قرب زيح شرفتي، يدلف كلصّ نبيل من فجوة فُتحت بعناية في جدار غرفة جارتي. وعن غير نيّة والله أعلم، ملت بأذني حتى لاصَقَتْ شحمتُها «الكايبل». حينئذٍ، استسلمت عيناي لإغماضة ارتجالية، لا لأن الشمس كانت تلطم وجهي، لربما هذه الإغماضة تعبير عن حالة صمت لاستشفاف الكلمات التي كانت ترسلها الجارة إلى من تحبّ وسماعها. النفس أمّارة بالسوء، لا أدري من أين أتت فكرة تلصّصي على ما تكتبه الجارة العاشقة. لم أتلمس الكلمات، ولكنني متأكد أن هذا «الكايبل» اللعين يضجّ بلهاثها. ليتني أقبض على تأوّهات حبيبها المعتوه. يا إلهي، ماذا لو قطعت «الكايبل» الآن؟ أعتقد أنه سيموت خنقاً قبل أن يصل إلى ذروة انفعاله!
قطع منبّه الرسائل فكرتي. فتحت الرسالة لينساب منها هدل فيروزي الفوح: «تعا ولا تجي… وكذوب عليّي… وعدني إنّك رح تجي… تعا ولا تجي». ثم نقاط عدّة على هامش الشاشة الصغيرة، تنتهي ببعض الكلمات المختصرة: «حبيبي… في الأمس نسيت شفاهك فوق رموشي، هلا فتحت حاسبك لأرسلها لك؟».
ـ ها… ماذا لو قطع أحدهم «كايبل الإنترت» وأنتِ ترسلينها؟
معقول؟ هل يفعلها أحد؟ كيف أمشي في الطريق من دون شفاه؟ بصراحة، أعتقد أنّ العلاقة في المرويات أجمل وألذّ ألف مرّة. «وحيد الطويلة» في «باب الليل» روايته الأخيرة أسرني في المنزل ليوم كامل بسبب الإثارة. لن أغفر له فعلته، فقد كان السبب أن يكسر مثل الماغوط يوم صيامي، حين غفوت لبرهة وقت الظهيرة، وقد أرسل عن قصد بطلة مرويّته «المعلمة الشبقة»، تنكزني بغنج كي أفتح عينيّ على ثديين رخاميين كافرين، هامسةً في أذني: «قم لنفتعل معركة شهية الآن، هيا أنهض فأنا لا أهاب مدافعك الصدئة»!
لعلّه الشيطان استوطن مفاصل الحكاية التي استهوتني كثيراً في تفاصيلها. نظرت إلى بهو الشارع من مكاني عبر الشرفة، كان حبيب جارتي مارّاً كعابر سبيل، تمتمت: لعنك الله أيها الشيطان، كنت سأخنق الرجل ظلماً وبهتاناً، وأنت كذلك أيها الشيطان الأكبر ـ «وحيد الطويلة» ـ فحين وقعت الواقعة، ظهر أمامي «أبو شندي» بطل مرويّته مبتسّماً، قال: «لا عليك… فقد فعلها بي قبلاً»!