ذكرى النكبة.. والغياب!

د. سلوى خليل الأمين

حين تلفظ الروح أنفاسها، نلتفّ بالسرّ العظيم، سرّ الخالق والخلق والقدر المنتظر، وحين تحلّ النكبات بالأوطان والشعوب ندور كالفلك على أجنحة اللحظات التي تدوّن وتؤَرشف كلّ البيانات والخطابات والمعاهدات وما يدور في كواليس السلطات المختصة التي تصدر قراراتها والكلّ نيام.

وحين نطوي صفحات الزمن المشغول بالقهر والظلم والنكبات والحروب والاغتيالات والانتخابات البلدية والتمديد لنواب الأمة، نرسم الواقع حلماً يرتفع حقيقة، تستظلّ عقولنا وضمائرنا ومسار حياتنا، وكلّ بوابات العبور من حالة إلى اخرى.

فنحن شعب نستسهل الكلام، وترميم البيانات، ووشوشات المجالس، حين المجالس بالأمانات، وحين ديمقراطية الحكام مرهونة بحسابات السلطة والمال، وحين ذكرى نكبة فلسطين تمحوها أخبار الانتخابات البلدية المتنقلة عبر الشاشات من بلدة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، بإسلوب بزّ الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تموّل بملايين الدولارات.

فعلاً أنّ لبنان وطن مختلف… وشعبه مختلف… وقادته مختلفون، فالحرية شعار مبهم لديهم ومختلف المعايير والمضامين، والديمقراطية حبر على ورق، والاعتراضات الدائمة على غلاء الخبز والدواء وقسط المدرسة والجامعة والطبابة ولقمة العيش والبطالة واصفرار الشهادات المعلقة على جدران البيوت، ما هي سوى فقاقيع صابون يذروها الهواء… كحلم ينساه كلّ واحد منا عند طلوع الصباح.

لهذا تشير كلّ الوقائع المحيطة بنا أنّ زمن فلسطين قد ولى وانّ ممالأة «إسرائيل» حدث مرغوب، لأنّ طمس التاريخ عند بعض الحكام العرب، ومحو أثار النكبة وطمسها في دهاليز النسيان، وعار الدفاع عن فلسطين وشعبها ومقاومة «إسرائيل» بات من المسلمات، التي لا تأخذ بعين الاعتبار رفع راية الجهاد عن كرامة أمة، فقدت بضياع فلسطين وبتحوير القضايا العربية والقومية والوطنية إلى فقاعات صابون يذروها الهواء، مناخها الآمن وسلامها الموعود وعودتها الميمونة.

لقد بات تأييد الإرهاب وعصاباته أمراً واقعاً، بل من الخطط الأولوية في أجندات العرب الميامين، الذين باتوا على وئام ووصال مع العدو «الإسرائيلي»، بحجة الخوف من المدّ الإيراني الذي يعتبرونه حالياً عدوّهم الأوحد لهذا يتباهون بمقاومته ومحاربة كلّ دولة عربية أو فريق عربي يسانده، علما أنّ إيران رفعت راية فلسطين وأول دولة فتحت سفارة لفلسطين على أراضيها قبل كلّ العرب.

هذا الوجع الدائم، بل الجرح النازف في قلب الأمة العربية، الذي سبّبته نكبة فلسطين، ما زالت تديره عصابات الغفلة الواقعة تحت سيطرة مافيا القوة العالمية، المتمثلة بالسلطة الأميركية والصهيونية العالمية، بدليل استمرار الحرب الكونية الإرهابية على سورية، والمماطلة القائمة من قبل الإدارة الأميركية في شأن الحلّ السياسي الذي تتباه روسيا ودول «بريكس» بموافقة من القيادة السورية، التي ما زال جيشها بالتنسيق مع حلفائها يسجل النصر تلو النصر على «داعش» و«النصرة» والجماعات الإرهابية جميعها، التي تنضوي تحت شعارات وأسماء مختلفة، علماً أنها كلها تصبّ في مصدر إرهابي عنصري وصهيوني واحد، ألا وهو إكمال تدمير سورية وتفتيتها وزعزعة المنطقة بكاملها، مروراً بالعراق ولبنان ومصر واليمن وصولاً إلى ليبيا والجزائر التي يصدّرون إليها الإرهاب منذ زمن ليس بالبعيد.

من هنا لا بدّ لي قبل الاستطراد بالكلام، من أن ألامس بمشاعري الوطنية والقومية ما يحدث في سورية والعراق عطفاً على ضياع فلسطين ونكبتها المشؤومة، التي تسبّبت في تشتيت أهلها، من الإشارة لطقوس المعاهدات التي تمّ توقيعها في كواليس الدول الغربية، وعلى رأسها بريطانيا في ذلك الزمن المشؤوم، بحيث أفرزت معاهدة سايكس بيكو تفتيت الأمة العربية، بعد تنفيذ وعد بلفور وضياع فلسطين وإلهاء العرب بحروبهم الداخلية والقبلية والعشائرية والدينية والمذهبية، التي ما زالت تغوص في عمق الجسد العربي، دون أيّ التفات من معظم حكام العرب إلى العمل على إرساء بذور صحوة عربية متقدّمة، تنقذ ما تبقى، قبل أن تنفذ الثروات البشرية والمادية.

مع العلم أنّ فلسطين وكلّ قوى المقاومة والصمود والتصدّي قد أصبحت في أجندات بعض الحكام العرب مجالاً حيوياً للمراهنة على التوافق مع العدو الصهيوني، بحيث ما يجري حالياً، وعلى عينك يا تاجر، من تغاض عن جرائم بني صهيون ودسائسهم وإرهابهم العدواني الدائم، الذي رسم واقعاً عربياً جباناً وخوفاً من مقارعتها، أنقذته المقاومة حين حصدت انتصارين عظيمين على العدو الصهيوني في العامين 2000 و2006.

لهذا فإنّ من يتذكّر جيداً يقرّ بالوقائع والدلالات التي تشير إلى أنّ العدو الصهيوني الذي رسم أجنداته على أساس عدواني شرير غايته تفتيت العالم العربي، ما زال قادراً على طمس الهوية الفلسطينية والعربية، إنْ لم يبادر العرب مجتمعين إلى القيام بمراجعة محسوبة النتائج، تؤشر إلى أنّ الحلّ السياسي في سورية أمر واجب الوجوب، وأنّ إنجاح المباحثات اليمنية السعودية لا بدّ من العمل على إنجازه بالسرعة القصوى، وأنّ الوقوف بوجه «إسرائيل» ونظيرتها تركيا هو الهدف المكتوب، وأنّ مدّ رسل السلام بينهم وبين إيران هو القوة الغالبة في نهاية المطاف.

ما يؤسف له، أنّ هذه الأرض العربية الممتدّة من الخليج إلى المحيط، لم تعد في الأجندات العربية على وجه الخصوص، أرض المجد الساكن في تاريخ الأجداد، ولا الأشواق الغزيرة المرشوشة بماء الزهر، بل هي المنفى الذي يحمل حماقات البعض ونزيف الدماء العربية النظيفة عبر بحار من الخيانات والالتفافات على ملامح حكاياتنا ومشهدياتنا وحروبنا والاغتيالات القائمة وفوارسها الأبطال، المنزلة سيرهم على قراطيسنا بأحرف من ضياء، حين بلوغ الأمرين من فقدان البعض للذاكرة الوطنية… ولمجريات الدهور المتدثرة بخيانات ذوي القربى المتتابعة… امر لا يُستهان به.

فهذا الوطن، لبنان، الذي هدّدته الحرب الأهلية زمناً بالتقسيم والفدرلة والتفتيت، ومن ثم بتحديات داخلية ومشاكل يومية ومعيشية ما زالت تشغل بال الناس، ومنها البيئة المعطوفة على تكدّس النفايات والانقطاع الدائم للكهرباء منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهدير ودخان المولدات ومافياتها القائمة في كلّ حيّ وبلدة وقرية بحماية سلطوية سياسية، ومن ثم هجرة الشباب والشابات وفراغ البيوت من فلذات الأكباد الذين هم عون للأهل في شيخوختهم، أضف إليها العنوسة الضاربة أطنابها في البيوت وحالات الطلاق المستشرية بسبب ضيق ذات اليد، التي تولد الخلافات اليومية بين أفراد الأسرة، بحيث أصبح الفقر شريكاً للناس دائماً في مسراهم ومجراهم، ولا حلّ سوى بالتمدّد والاسترخاء وغضّ النظر والخلاف على التحالفات الانتخابية، التي ظهرت مؤخراً في الانتخابات البلدية، والتي أثارت اشمئزاز أغلبية اللبنانيين من النخب ومن كلّ الفئات الشعبية التي تعيش حالة القرف مما يربك الحياة اللبنانية اليومية، التي لم تدرج سابقاً في الحياة اليومية لأيّ مواطن لبناني، فأبواب الزعماء مقفلة والأمراض تتكاثر ومنها ما يهدّد بزوال العقل «كالألزهايمر» ومنها من يسرق العمر على حين غفلة بمرض جرثومي لا شفاء منه كالسرطان، إضافة إلى الخطاب الوطني المنسي في جوارير الحكام، والمستبدل بالخطاب الطائفي المذهبي القائم على التكاذب وبث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، الذين أظهروا خلال الانتخابات البلدية أنهم صورة يلفّها النسيان والسقوط من الأجندات المزخرفة بأجمل الألوان.

في ظلّ كلّ ما جرى ويجري منذ حلول نكبة فلسطين وحتى تاريخ الانتخابات البلدية في لبنان ما زال العرب هم العرب الذين يهدمون تواريخهم بأيديهم، بالرغم من وعورة الطريق وتهليل الفاجرين، وبسمات المستعمرين الجدد، الذين ساهموا معنا في دفن الشعور الوطني القومي في مجاهل النسيان، حين في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، أيّ في المحافل الدولية الغربية والأممية والعربية واللبنانية، كان يقف رجل شجاع، فلسطين في قلبه وضميره حالة يقظة وراية مرفوعة على الدوام، يرحل دون مراسم هو السفير المقاوم الدكتور كلوفيس مقصود، ونظيره الدكتور محمد المجذوب الذي حمل قضية العرب والعروبة صوتاً صارخاً وكلمة معلنة واضحة، هي أقطع من حدّ السيف، ومقاومة فاعلة عبر كلّ مسارات حياته العلمية والمعرفية والوظيفية.

فهل هي يا ترى مصادفة أن يغيب الرجلان في ذكرى نكبة فلسطين، التي ارتبط اسمهما بها نضالاً وجهاداً بالكلمة والرأي الحرّ المنطلق من أعلى المنابر بصوتيهما الصارخ: فلسطين عربية؟!

رئيسة ديوان أهل القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى