ترميم الردع الناقص… غضب العناقيد يتحدّى عناقيد الغضب
نارام سرجون
تحتاج هذه الأيام الى قدر كبير من تبلّد المشاعر والأحاسيس كي لا تنفعل ولا تضرب الحيطان وتخبط على الطاولات كما لو كانت قبضتاك سنابك حصان بري هائج يحاصره السياج… وربما تغويك المرايا بتهشيمها الى شظايا بقبضتيك… وتتشهّى أصابعك أعناق الكؤوس لتعصرها حتى تتحطم…
كم تحتاج هذه الأيام ألا تشبه أعصابك أعصاب ثور اسباني اعتلى ظهره المغامرون لأول مرة… وكم تحتاج اذا ما التقيت غبياً يبرّر مجازر أردوغان والملك سلمان، ويثني على نتنياهو، أن لا تكون مسلحاً بأيّ سلاح حادّ أو ناري… بل حتى ألا تكون لك أظافر ولا أصابع…
تكاد أعصابنا تتركنا وتهاجر من أجسادنا وتقلع جذورها وترحل عن طقسنا البارد لأنّ أجسادنا تحوّلت الى زنازين وثلاجات للأعصاب… نحن نمسك أعصابنا وسلاحنا وعهدنا وميثاقنا ونلتزم بالهدنة ووقف النار حتى من أجل حياة المجرمين والقتلة… والعدو يضع الجمر على أيدينا القابضة على الزناد ويضع الحديد المحمّى على وجوهنا ويحرقنا… فلا عهد ولا ميثاق ولا هدنة…
تكاد بنادقنا تخاصمنا لأنّ دمها صار يغلي ونحن لا نزال نضع أكفّنا على فوهاتها كمن يريد منع فضيحة مجلجلة… ونمسك أعنّتها الجامحة احتراماً للعهد والوعد… وتكاد رصاصاتنا تنتحر وهي التي لم تخلق لتعمّر طويلاً ولا لتشيخ وتمشي على عكازات… فلا شيء تخشاه الرصاصة الا الصدأ أو أن تنتهي كشرنقة تموت دون أن تمرّ بتجربة التمزّق في الولادة وفتح أجنحتها والطيران الى أقصى مدى…
فما الذي تنتظره المطرقة…؟ وهل الصمت العسكري والتريّث أمام هذا الفلتان للكلاب المسعورة يحمل معنى عميقاً؟ قذائف في حلب وموت في الزارة… وعربدة في إدلب… واغتيال في دمشق… هل تهديد السعودية بسلاح فتاك يخيفنا ونحن لم نكترث بأساطيل سيّدها الأسود في البيت الأبيض؟ وهل نزق أردوغان الذي يتصرّف كأنه لن يترك حلب حتى وانْ احترقت كلّ تركيا سيمنعنا من إحراق تركيا؟ أم أنّ حليفنا يدرك أنّ حافة اللعبة هنا؟
يلاحظ في هذه الأيام أنّ العدو السعودي والتركي و«الاسرائيلي» يحاول استفزازنا بأية طريقة، ويحاول إلحاق الأذى والإهانة بنا عبر استمرار سرقة دمنا وتلويث انتصاراتنا… فنكاد نعود إلى السيرة الأولى للحرب حيث تتنقل المجازر والغارات والاغتيالات… وكأنّ درس السوخوي لم يتمّ استيعابه…!
والحقيقة هي أنّ تفسير ما يحدث لا يبدو سهلاً على الإطلاق ويتسبّب في الحيرة الشديدة… المجموعات المسلحة تتجرأ على كلّ الاتفاقات وهذا يعني أنّ الطرف الآخر الذي ضمن الاتفاقات ينسحب من الاتفاقات ويعبّر عن ذلك الانسحاب عبر إطلاق يد المجموعات المسلحة في العنف، وخاصة ضدّ المدنيين… فمدنيو حلب هم الذين دفعوا الثمن وأهل الزارة… وهذه سياسة تشير الى انّ الأطراف الخارجية لا تريد حرباً كبيرة ولكنها تريد استمرار الحرب السورية بهذا النموذج من المناوشات والضغط الشديد على اللحم بدل محاولة كسر العظم بالحرب… ويأتي اغتيال الشهيد مصطفى بدر الدين في هذا التوقيت الذي لا شك بترتيب وجهد استخباري وتوجيه «إسرائيلي» دقيق لنيران الإرهابيين ليعني أنّ «إسرائيل» مع حلفائها العرب تتحدّى الجميع وتتصرّف من منطق أنها صارت اليوم خارج معادلة الردع وخرجت من توازن الرعب الذي أرسته حرب 2006… وهي تدرك ضعفاً ما في الحلقة المقاومة يمكنها النفاذ من خلالها الى معادلة جديدة تفرضها بالتدريج… فهي تقول إنها لم تعد مهتمّة بردّ حزب الله ولا تتوقعه.. وهو سقوط لمعادلة الردع… وتبدو «إسرائيل» والسعودية وتركيا على يقين من أنّ إيران لن تفرط باتفاقها النووي من أجل ثأر حزب الله على عملية اغتيال قادته… وهي لذلك ستطلب منه الانتقال الى قبول المعادلة «الإسرائيلية» الجديدة التي ستستمرّ في قضم كوادر حزب الله وكسر المعطف الحديدي له المتمثل في قيادات الصف الأول…
ويعتقد «الإسرائيليون» أنّ «تنظيف الصف الأول للحزب» سيتيح المجال أمام قيادات أقلّ تجربة وكفاءة ورمزية… حيث ينتهي جيل الروّاد الأوائل… كما حدث مع حركة حماس التي باتت بعد حملة تصفية لكلّ قادتها العسكريين بلا رأس وتمّت تصفية جيل الرواد الأوائل ليبقى جيل المراهقين الذين أخذوا حماس الى قفص الناتو وأدخلوها بقدميها الى بيت الطاعة… فما الفرق بين تركيا الناتو واميركا زعيمة الناتو؟ وما الفرق بين القصور السعودية والقطرية وأيّ سفارة بريطانية في الخليج؟ انّ نموذج حماس وتغيّرها وانقلابها – كما ترى «إسرائيل» – ربما يكون مصير حزب الله على شاكلتها حيث يغيب جيل الرواد المؤسّس عسكرياً والذي بنى الأسطورة والذي يقضم بالتدريج… وبالتالي يحدث خلل في منظومة السيطرة القيادية والمعنوية على المقاتلين التي تشبه ضرب الأعصاب الأساسية… فيما تتولى السعودية وتركيا والحلفاء العرب قتل جسد الحزب في معركة استنزاف طويلة بعيداً عن حدود «إسرائيل» التي ستصل الى يوم تجد أمامها حزباً بلا كوادر… ومقاتلين وكوادر جديدة بتجربة قتال جديدة وبعقيدة جديدة حيث صار عدوّهم الأول «جبهة النصرة» و«داعش» و«الاخوان المسلمون» والبعد الطائفي وليس «إسرائيل»… وهنا تكون ايّ ضربة «إسرائيلية» موفقة وقد تتسبّب في شق الحزب وإثارة تمرّد في أوساط حاضنته التي تحاول «إسرائيل» اختراقها باستماتة ولكن بصمت ودون كلل عبر ربطها بالنراع والخطاب المذهبي القادم من العراق… ولا يحول بينها وبين ذلك سوى شخصية السيد حسن نصرالله وكاريزميته الساحرة… التي انْ غابت لأيّ سبب… تحول جوهر الحزب كما تحوّلت حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية عندما أفرغت كلتاهما من كوادرهما الرئيسية التي تمّ اغتيالها واحداً واحداً وبقيت الهياكل الفارغة الى ان وصلنا الى زمن «أبو مازن»… وزمن «أبو الوليد»… واحد يفاوض منذ عشرين سنة على حكم بلدية… والثاني يبحث عن خليفة وهو لا يريد من الدنيا سوى أن يكون «والياً على غزة» لخليفة عثماني يخضع له!
انّ الوضع الميداني السوري ليس سهلاً على محور المقاومة، خاصة عندما ينتشر الجيش السوري وحلفاؤه على مساحة البلاد لأنّ غيابهم عن قرية واحدة يعني أنّ المدنيين سيقتلون وهو المكان المؤلم والضاغط الذي يوجع الدولة والجيش في سورية… فرسالة قصف حلب ومجزرة الزارة هي أنّ أيّ إعادة توزيع وتحشيد للجيش الذي ركز على المنطقة الشرقية ستعني فراغاً في المنطقة الرخوة وتراجعاً في أمنها وثمناً يدفعه المدنيون… أيّ انّ المطلوب الآن هو بقاء نقاط التماس دون تغيير حتى تصدأ… والعدو التركي مع العدو «الاسرائيلي» يرتديان بزة واقية من الرصاص اسمها «القاعدة» و«النصرة» و«داعش» والإسلاميون والخطاب الطائفي… وهذان العدوان مستعدّان لتلقي كلّ الرصاص على هذه البزة التي تدفع عنه الثمن الباهظ… وتمزيق البزة وهزيمتها هو الذي سيجعل صدر «إسرائيل» عارياً مكشوفاً… ولكن حتى تتمّ هزيمة التنظيمات الإرهابية، فإنّ علينا نحن أن نقرّر معادلة التهدئة بالردع… فتهدئة دون تسلّحها بالردع هي تهدئة من طرف واحد… وهذه اسمها الردع الناقص… سواء كان في حلب أو في جنوب لبنان…
محور المقاومة يدرك كلّ هذا ويدرك أيضاً أنّ هذه الحال يجب أن تتغيّر بتغيير معادلات ضبط النفس… ومعادلات التهدئة… وتغيير معادلات الردّ المحدود والجراحي المتركز على البزة الواقية من الرصاص… كي لا يكثر في هذه الأيام أولو التفسيرات والتأويلات الذين لا يفهمون هدوءنا في الحرب الا أنه تراجع وحيرة… ولايقرأون في تريّثنا الا أنه بسبب قوة اندفاع العدو…
نحن لا ننتمي الى الدول التي تفقد صبرها بسرعة مثل تركيا التي تنجب ساسة من نمودج أردوغان الذي يفقد صبره أمام الميكروفونات ولكنه يرتجف عندما يقترب من السياج الحدودي فيقرّر الصبر… فمنذ بداية الحرب لم نفقد صبرنا لحظة واحدة واكتفينا بالعمل بهدوء لامتصاص الموجة العاتية… وكان في صلابة الهدوء السوري والرقي في الحزن والغضب درس مهمّ في العمل السياسي الذي كان دون انفعال وتهوّر، وتمكن من تفتيت الموجة وقلب اتجاهها… وعندما نقول فإننا نعني ما نقول دون انفلات أعصاب ونفاذ الصبر…
لا يبدو لي أنّ محور المقاومة الذي يتبع الديبلوماسية التي تتصرّف بأناقة بالغة سيكون غائباً عن تغيير ملموس قريب في معادلة الردع التي تتغيّر على الطرف الآخر… فالديبلوماسية الأنيقة لا تنفع مع ديبلوماسية الرعاع وديبلوماسية الرعاة… وهناك تحالف جلي بين ذئاب القاعدة ورعاة الذئاب… أي التحالف التركي والسعودي و«الاسرائيلي»… والسؤال الذي تطرحه المرحلة ويستحق التأمّل… والتفحص والتساؤل… هو كيف ستنتهي الديبلوماسية الأنيقة التي اكتفت بقتل الذئاب… ومن أين تبدأ ديبلوماسية ردع الرعاة دون سقف الحرب؟
أعتقد أنّ المعطيات تشير الى أن لا أحد في كلّ المنطقة سيذهب نحو الحرب الكبرى الآن رغم أنّ هناك رغبة جامحة لدى قواعد المقاومة تضغط نحو هذا الخيار… لأنّ هناك قراراً واتفاقاً أميركياً روسياً بمنع التصادم بين الأطراف المتصارعة بأيّ ثمن لأنّ ذلك سيفضي الى تصادم مباشر بينهما… وهذا تفاهم قائم على الأقلّ حتى الانتخابات الأميركية ولكنه سيتيح هامشاً قوياً لمحور المقاومة وسورية للتحرك وفق هذه المعادلة… فمهما حدث لن يسمح لتركيا أو «إسرائيل» بإعلان الحرب… وهي معادلة في اتجاهي طرفي النزاع أيّ أنّ «إسرائيل» ممنوعة من دخول الحرب ويترك لها هامش تدخل ودعم واغتيالات… وهذا ما سيعني أنّ محور المقاومة سيستغله أيضاً وسيضرب العدو تحت هذا التفاهم وهو مدرك أنّ «إسرائيل» لا تقدر على الحرب لأنها ليست على يقين من نتيجتها ولأنّ هناك تفاهماً فرضه التوافق الروسي الأميركي عليها أيضاً… وهو الردع الذي سيقوم دون الخوف من الحرب… وعلى هذا الأساس نحن غالباً في طور دخول مرحلة الردع منعطفاً جديداً سيفرضه حلف المقاومة بعمليات متتابعة قريبة تحت سقف التفاهم الروسي الأميركي بمنع الحرب… ولا يخرق هذا التوقع، إلا أننا أمام حزب الله وعلى الجميع أن يضع في الحسبان شيئاً جوهرياً… وهو أنّ حزب الله الأنيق في السياسة والأستاذ في الصبر أثبت أنه استثنائي ولا تنطبق عليه كلّ التوقعات السياسية وحسابات المعادلات الدولية… وقد يحمل عبء توجيه التفاهم الروسي الأميركي نحو معادلة تفاهم وردع جديدين… لأنه أحد اطراف معادلة اللاعودة عن خيار النصر التي تنهض في الحرب السورية..
فهناك قاعدة هي التي تمسك كلّ المعادلات في الحرب السورية… وهي قاعدة اللا عودة … حيث أنّ الأحداث في سورية كلها تعمل وفق قاعدة اللا عودة … فلا عودة إطلاقاً لتركيا الى بلادنا مهما كان الثمن… ولا عودة عن مشروع طرد السعودية وثقافة الخليج المحتلّ من بلاد الشام حتى آخر ارهابي وآخر شيخ وهابي وآخر مسمار سعودي في الأحزاب السياسية… ولا عودة إطلاقاً في مشروع النهضة الكبرى الذي يبدأ بإغلاق العصر الحجري الإخواني والقاعدي… ولا عودة عن تدمير زمن ابن تيمية واقتلاعه من شروشه… ولا عودة عن ملاحقة أنفاس محمد بن عبد الوهاب الكريهة وإبادة كل ذراري كلامه التي تلوّث ثقافة الشرق وتتسرّب اليها كما يتسرّب الزيت الأسود الى منابع الماء العذب… وهذا سيقوّي من خيار اللاعودة عن خيار المقاومة واللاعودة عن هدف تمزيق» بيت العنكبوت»… ولا عودة عن خيار تحرير حلب والرقة وكلّ حارة في سورية… وكذلك لا عودة عن تحالف سورية وإيران وروسيا… كقوة ثلاثية لا يستوي توازن العالم إلا بها ويتطلبها مشروع اللا عودة… ولا عودة لروسيا الى زمن البيريسترويكا وزمن الرخويات الروسية والغلاسنوست… ولذلك فإنّ من يغويه صمتنا فإنّ عليه أن يخشى هذه الغواية… ومن يعتقد أنه يتحدّانا فعليه ألا يتعجّل قطف العنب من تهديدات خطابات عناقيد الغضب لعادل الجبير… فعناقيد الغضب والثأر «الاسرائيلية» التي تنشرها السعودية في الشرق وتحرق بساتيننا ودوالينا وعناقيدنا وأعنابنا… ستجد لها كرّاماً مقاوماً يجنيها ويعصرها لنا نصراً في كؤوس النصر… في عملية معاكسة تماماً نسمّيها «غضب العناقيد»…
وعندما نقلت تصوّراتي لخبير روسي حاذق في معرفة مزاج موسكو قال لي ضاحكاً: انّ هدوء الدببة قد يعني أنها تنتظر شيئاً خطيراً… حدثاً مهماً أو صيداً ثميناً …
صديقي الروسي تركني في حيرة… ولكنني أدركت أنه يعلم شيئاً سينكشف قريباً… لأنه عندما سقطت إدلب كان هناك اتفاق سوري روسي مسبق على عملية عسكرية مزدوجة… ويومها قال لي: «اني أشمّ رائحة أوسيتيا وابخازيا في شمال سورية» وعندها أدركت من سياق الكلام الطويل معه أنه يعني أنّ مزاج الكرملين هو مزاج عسكري دون تردّد… ومزاج من يريد أن يلقن أحداً درساً عسكرياً…
ترى ماذا ينتظر الحلفاء في هذا الصيف وهم كامنون بين الأشجار والرصاص ينهمر حولهم… دون أن تصدر عنهم اية حركة وعيونهم ثابتة في البعيد… وكأنّ فريسة تقترب.. وهدفا يدخل في نطاق الصيد؟
لا أزال بما أعرف قادراً على أن أمسك اليوم أعصابي بالحبال كما أثبّت الجياد الهائجة… ولا أزال قادراً على القبض على السنابك التي تضرب الحيطان وتحطم الأطباق وتهشم المرايا… وأقدر وأنا على ثقة أن أعدّ الرصاص أنه لن يطول انتظاره ولن يشيخ في الزنازين ولن يموت في الشرنقة النحاسية… وستعيش الرصاصة تجربة الولادة والتمزّق في الولادة… وفتح أجنحتها والطيران الى أقصى مدى… في مرحلة اسمها غضب العناقيد…