سورية والمقاومة عقدة المخططات مئوية سايكس بيكو 3
ناصر قنديل
– إذا كان البحث عن البدائل الأشدّ فعالية من سايكس بيكو في تحقيق الأهداف ذاتها قد انطلق من فشلها في منع ولادة دولة قوية مركزية ومحورية في الإقليم السوري الكبير، أو سورية الطبيعية والتاريخية التي استهدفت سايكس بيكو منع وحدتها وتوزيع توازناتها على كيانات هشة بتوازنات ديمغرافية تمنع نشوء مثل هذه الدولة المحورية القوية، العابرة للعصبيات والطوائف والاتنيات، وإذا كانت سورية الدولة التي نعرفها شكلت عقدة السقوط لسايكس بيكو في هذا الامتحان، وإذا كان الفشل الأهمّ لسايكس بيكو المترادفة مع وعد بلفور ونشأة كيان غاصب فوق فلسطين، هو في فشلها بتأمين بيئة صالحة لحفظ التفوّق «الإسرائيلي» وضمان أمن «إسرائيل»، وإذا كانت المقاومة هي المولّد الذي حملته شعوب المنطقة للردّ على قيام الكيان الغاصب وعدوانه المستمرّ، وهي المنتج الشعبي الوطني والإقليمي والقومي الذي كسر معادلات القوة «الإسرائيلية»، وأسقط مخططات الاحتلال والقضم والهضم عبر إنجاز التحرير فسقط حلم «إسرائيل» الكبرى، وأسقط بعدها مخططات الردع لبناء منظومة تقايض العلاقة بين «إسرائيل» والجوار بالأمن لقاء الاقتصاد، فأسقط «إسرائيل» العظمى، فإنّ البحث بفعالية أيّ بديل سينطلق من هنا، من كيف تسقط الدولة السورية وكيف تخنق المقاومة؟
– تميّز القرن الفاصل عن ولادة سايكس بيكو بميزتين رئيسيتين لا يمكن تجاهلهما في دراسة البدائل المطروحة والتنبّؤ بما ستفعله على صعيدي منع نشوء الدولة القوية المحورية ونهضة المقاومة بوجه «إسرائيل». الأولى أنّ القوى الإقليمية التي تستنهضها حركة الصراع والمواجهة مع المشروع الغربي في المنطقة لا تلبث أن تصير جزءاً عضوياً من تكوين موازين القوى المحيطة بالصراع حول المفاهيم والصياغات التي ستحكم تشكل حالتي الدولة المحورية ومشروع المقاومة. فقد حدث هذا مع صعود نجم الناصرية مع ثورة جمال عبد الناصر في مصر ومشروعه الوحدوي والتحرّري، وصار بالتالي جزءاً من معادلات بلاد الشام والكيانات التي أفرزتها سايكس بيكو، وبعد إسقاط مشروع عبد الناصر والتحاق مصر بكامب ديفيد، لم تتأخر إيران عن تعويض هذا الخروج، وتشكيل قطب جاذب مساند لمعادلة سورية الدولة المحورية ومعادلة المقاومة القادرة، وصار لزاماً على أيّ مشروع بديل كي ينجح أن يتمكن من تحييد الفعل الإيراني وإضعاف تأثيره في المدى الحيوي لسورية الطبيعية، أو أن يتمكن من تغيير إيران نفسها ونقلها من ضفة إلى ضفة ويضمن خلوّ المنطقة من قوى جذب كبرى ذات تأثير معاكس للمشروع الغربي. أما الميزة الثانية فهي ظهور الارتباط الوثيق بين مكانة الشرق الأوسط في المعادلات الدولية، خصوصاً التوازن الأميركي الروسي مهما كان نظام الحكم في موسكو، وبين موقع بلاد الشام في الشرق الأوسط، فمعادلة «أمن موسكو يبدأ في دمشق» وضعتها كاترين الثانية ولم يكن أندروبوف من وضعها، وعلى كلّ بديل كي ينجح أن يتواءم مع مقتضيات الأمن الروسي الاستراتيجي أو أن يحيّد قدرة روسيا عن الفعل، أو أن يجعل روسيا ذاتها خارج المعادلة الدولية، فقد سبق أن أظهرت موسكو جهوزية للحضور المكثف عندما يكون أمن الشرق الأوسط، خصوصاً بلاد الشام على الطاولة في عهديها كعاصمة للاتحاد السوفياتي أو كعاصمة لروسيا الاتحادية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.
– الرهان على بديل أفعل من سايكس بيكو في تحقيق هدفي منع قيام الدولة المحورية، وتعقيم المنطقة من ظاهرة المقاومة، لا ينسجم بالتأكيد مع الذهاب لتوسيع وتكبير الأطر الجغرافية للكيانات القائمة نحو الدمج والوحدة، بل بالسير نحو المزيد من التقسيم والشرذمة، ولا وجود لبدائل صناعية قابلة للولادة سوى ما تقدّم به برنارد لويس من مقترحات في لجنة حكماء الأطلسي التي ترأستها مادلين أولبرايت، وما جعله هنري برنار ليفي عنواناً لمشروعه السياسي للربيع العربي، وما سبق وبشر به مارتن أنديك، وكلهم بمسمّيات خاصة تصب في مجرى واحد، فكيانات مؤسسة على الديمغرافيا لا على الجغرافيا عند برنارد لويس هي ذاتها مشروع حرب دينية أهلية لا تهدأ قبل مئة عام بين الشيعة والسنة كمكونين بارزين في بلاد الشام قابلين لتكرار مشهد أوروبا في القرون الوسطى وحربها الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، لكنها في النهاية الوصفة ذاتها التي يسمّيها مارتن أنديك بمواجهة حتى الموت بين الجهاديتين الشيعية والسنية.
– عقبتان رئيسيتان تكفلتا بوأد هذا المشروع وهو قيد الولادة، وفي سورية التي شكلت لعنة سايكس بيكو ومقبرة البديل الجديد، العقبة الأولى هي أنّ أخذ مسلمي بلاد الشام وخصوصاً الذين يُراد منهم لعب دور المحرك للمشروع التفتيتي من الطائفة السنية لخيار القتال المذهبي الاستئصالي لا ينسجم مع تاريخهم كسكان أصليين خبروا العيش الواحد مع مكونات تشاطروا معها بناء بلدهم قبل ظهور الإسلام وقبل ظهور الديانات السماوية، فهذه البلاد هي خميرة التجربة الإنسانية لانصهار موجات بشرية عبر آلاف السنين، لا يسهل جذبها إلى حروب تنتمي للبدائية والتوحش، وهذا وحده يفسّر بقاء المدن السورية والحواضر الكبرى في سورية خارج المشروع التدميري الجديد، وانخراطها في الحرب تحت لواء الدفاع عن مشروع الدولة الوطنية وجيشها المحوري، وهذا يعني أنّ السير قدماً في خيار التسعير المذهبي للفتنة يستدعي استجلاب جسد بشري عضوي من خارج هذه البلاد ورمي جغرافيتها في حضن تنظيم «القاعدة» المؤهّل وحده وفقاً للفكر الوهابي ورعايته السعودية، أو بالشراكة مع الإخوان المسلمين ورعايتهم التركية ووهم السلطنة وتجديد شبابها العثماني كطريق وحيد لضخ دماء كافية في شرايين هذه الحرب. ومثل هذا الخيار الذي اختبر فعلاً يعني مساساً جوهرياً بالأمن الاستراتيجي لكل من روسيا وإيران في ظلّ موازين قوى دولية أثبتت عدم امتلاك المشروع الغربي القدرة الكافية على ردعهما أو تحييدهما عن المدى الحيوي للحرب على سورية قلب بلاد الشام.
– العقبة الثانية كانت ولا تزال أنّ المكون الشيعي والعلوي المُراد استثارته لحرب مذهبية لا يستجيب بالقدر المُراد لانخراط أغلبيته الساحقة في قلب خيار المقاومة واكتشافه ويقينه بعمق العلاقة بين قتال «إسرائيل» وإسقاط مشروع التطرف الوهابي من جهة ومشاريع التقسيم والتفتيت من جهة مقابلة. والمشكلة الأعقد هي في أنّ الاستقطاب المُراد صناعته من خارج معادلة المقاومة والدولة المدنية، تعني تصعيد وتكثيف مرجعيتي كلّ من سنة وشيعة المنطقة لتنظيم «القاعدة» وإيران، وصولاً لما يحمله الذهاب بخيار التقسيم في نهاياته من إصابات تنهي وحدة كيانين حيويين في المصالح الغربية هما تركيا والسعودية، وما سيترتب على ذلك هو تسليم ساحل المتوسط من حدود اليونان الجنوبية إلى حدود فلسطين الشمالية لكيانات شيعية علوية تدين بالولاء لإيران، ومثلها كيانات شيعية تقابل إيران على حدود مياه الخليج هي المناطق التي تحتضن النفط خصوصاً في شرق السعودية، وما يرتبه ذلك من جعل إيران قوة عظمى تمسك بأمن مياه الخليج من الضفتين وتقرّر شرعية ولا شرعية من يتواجد فيها وتمسك مصير النفط المتدفق منه، ومعهما مصير أمن المتوسط من كلّ الساحل الغربي، وفي المقابل تسليم وسط المنطقة الممتدّ من الحدود التركية حتى وسط اليمن ومضيقي العقبة وباب المندب إلى تنظيم «القاعدة»، ووضع أمن الغرب كله على كف عفريت.
– الخلاصات التي كانت نظرية حول مخاطر العبث بالديمغرافيا، والتعقيدات الإقليمية والدولية المصاحبة لعلمية الفوضى واللعب بالكيانات، صارت حقائق واقعية ترجمتها وقائع الحرب في سورية، ومعها ظهرت عقبات مضافة عديدة، ترتبط بالصمود المعجزة لفكرة الدولة الوطنية في سورية والقدرات اللغز التي عبّرت عنها تجربة المقاومة في إمكانية الجمع بين خوض الحرب بوجه التفتيت والتقسيم والحفاظ على توازن الردع بوجه «إسرائيل»، وما قاله الموقف الروسي إنّ إغراء الحصول على دويلة علوية أو كردية أو كلتيهما في سورية، لا يعادل خسائر نهضة العثمانية على الحدود الروسية، ولا مخاطر ولادة كيانات تابعة لتنظيم «القاعدة» ترتبط بحبال صرّة مع المجتمعات الإسلامية في قلب روسيا وجمهوريات الاتحاد الروسي، ليصير عنوان المعادلة الغربية كما لخصها هنري كيسنجر في مناقشات لجنة الحكماء الأطلسية، لا لتغيير الحدود، نعم لتسعير التناقضات وإشعال الفتن وإيقاظ العصبيات، لتحويل الكيانات إلى دول رخوة سائلة يمكن عصرها ومفاوضتها بيسر أكثر، وتضعف وحدتها وعناصر تماسكها والسعي لتفخيخها بإعادة تكوينها وفق التكوينات الاتنية والطائفية والمذهبية، وهذا معنى كلام المبعوث الأممي في سورية ستيفان دي ميستورا عن نموذج اتفاق الطائف الخاص بلبنان القابل للاقتداء كمصدر للإلهام لصناعة الحل السياسي في سورية بما لا يصيب وحدتها الجغرافية، والنموذج الملهم هو مشروع الدولة الطائفية… الذي سيقاتله السوريون حتى آخر قطرة دم.