ما بين القطب الواحد واختلال قواعد الحياة البشرية… البحث عن الحقيقة والطريق
عبد الرحمن الخليفة
مؤكد انّ الطريق الذي أوصلنا الى ما نحن عليه من هوان وتشرذم واستغلال يراه القادرون منا على ملامسة الحقيقة، ويمتلكون الشجاعة للاعتراف بها، ويحسّه البسطاء منا ايضاً بفطرتهم التي تعوّدت امتلاك اشياءها الخاصة… والتعبير عن حاجاتها وفقاً لواقعها الذي تقاطعت عوامل كثيرة في تكوينه. وهي ما نبحث عنه لنعرضه على أنفسنا ونطابقه مع معطياتها لاستخلاص ما هو حقيقي منه ويتماشى مع انتمائنا للارض وتاريخها المشرّف الذي عندما ننكره ونتنكر له ندخل فضاء لا محدودا من الأوهام، ونفقد الطريق الذي تمثل بدايته أصل انتمائنا إلى مجتمع بشري بعينه وأرض تحمل جذور ذلك الانتماء.
النوع الاول والمهمّ من انواع الحقائق هو حقيقة وجود البشر على الارض بالمقدرات المادية المحدودة لكليهما. والمكونات المحسوسة ذات التأثير الإيجابي من الرحابة والقدرة على الابتكار والتجديد، وكلّ ذلك قطعاً يحتاج الى استقرار وطمأنينة للانسان حتى يقدر قيمة الأرض ومناخها الذي يحيا عليه بعوامله المتنوعة بيئياً ووجدانياً. ولا يسعى الى خرابها بوعي او لا وعي منه، هذا ما نعتبره روح المسؤولية التي تحاصرها صراعات البشر المبنية على الاستهانة بقيمة الوجود. وعدم ادراكها، ثقافياً أعطى ذلك المصطلح صراع الحضارات وعملياً يمكن تسميته صراع الهيمنة وبسط النفوذ الذي كان محصوراً قبل حرب الخليج الثانية بين أوروبا والولايات المتحدة الاميركية ولعبت فيه اوروبا بعدة أوراق منها التحالفية ومنها العدائية التي كانت تمثلها كلّ من روسيا وفرنسا كلّ في اتجاهه بالإضافة الى المانيا بحسابات أكثر دقة وحذراً، مما استدعى وفق الفهم الاميركي ان تطلق على اوروبا كلها لقب اوروبا العجوز، ثم يبدأ الضغط يتكاثف اقتصادياً ودبلوماسياً حتى زيارة السيّئ الذكر جورج بوش الى فرنسا في ذكرى إنزال النورماندي عام 2004، ليبدأ الأوروبيون مرحلة جديدة في التعاطي مع السياسة الدولية وهي مرحلة ادّت الى العديد من الاحداث المهمة تمّت فيها إعادة ترتيب الكثير من العلاقات بين الدول ليؤثر ذلك مباشرة على شعوب تلك البلدان في مختلف مجالات الحياة خصوصاً الاقتصادية منها، واخذت تنشئ واقعاً مختلفا في دولنا، بالأخص على صعيد الرهانات السياسية لأنها شكلت غياباً تاماً في منعرجات حساسة من تاريخها المعاصر حتى فقدت منظومة كدول عدم الانحياز التي كانت تحتاج لرؤى خلاقة وجديدة لمواكبة متغيرات عصر العولمة او القرن الاميركي كما اطلق عليه هناك.
قد يكون ذلك عائدا الى أخطاء في المناهج التي تدار بها المؤسسات السياسية، وايضاً لعدم قدرة وكفاءة زعماء تلك المؤسسات وجهلهم بما يحدث حولهم ومثال على ذلك ما أشرنا اليه في مقالات سابقة من فرح الأنظمة العربية وغالب احزابها ذات الثقل الجماهيري بالنظام العالمي الجديد وتأييده، وكأن دولهم لم تكن ضحايا لممثلي هذا النظام الذي على رأسه «إسرائيل» ثم الولايات المتحدة، ثم بقية الجوقة التابعة كبريطانيا وفرنسا اللتين استغلتا يوماً ما موارد تلك الدول وفرقتا بين شعوبها، ما يلغي أهلية تلك المناهج التي اتبعتها المؤسسات السياسية، سواء كانت تمثل سلطة او معارضة، بل وينفي وطنيتها، هذا ما سيأتي ضمن سياق الحديث عن أخطاء تاريخية في مجالات متعدّدة كان للسياسة نصيب مقدّر من التأثير السلبي فيها ودفعت ثمنه باهظاً عدة شعوب في أفريقيا والعالم العربي.
انّ الزمان الذي مرّ على تأسيس هذا النظام العالمي غير الشرعي لأنه لا يعترف بوجود عدة ثقافات أصيلة في العالم، بل واستغلها واهان انسانها ليس طويلا رغم انّ الزمن قد اثبت انّ التخطيط له كان سابقاً لتأسيسه بكثير وبداية الطريق للفكاك من أسره التخلص من رواسب الاستعمار والانظمة المحلية التي جاءت بديلاً عنه، ولم تعمل على فتح الآفاق امام شعوبها وتحرير وعيها من السلطوية الجائرة التي امتدت طويلاً.
اذن… فإنّ بداية الطريق هي إنهاض الشعوب لمواجهة تحدياتها لا المؤسسات السياسية التي يتعالى قادتها على قواعدها. وترفض كسر حاجز الاحتكار السياسي في مجالات الحياة الأخرى وفصلها ليتمتـع بهـا الانسـان ويطـور قدراته ويسعد بمقدراته.
لا يغيب عن كثير من متابعي الواقع الإنساني في عالمنا المعاصر تلك المفارقات الكبيرة والواضحة في مختلف جوانب الحياة التي تأخذ من الريف وتضيف الى المدينة، تأخذ من رصيد الإنتاج الطبيعي وتضيف للإنتاج الصناعي… تأخذ من الوجودي والضروري لتضيف الى الشكلي والاستهلاكي، واثر ذلك الواضح في هدم قواعد اساسية في حياتنا ابرزها قضية تدهور قطاع الإنتاج الطبيعي الحيوي كالزراعة والرعي وهيمنة القطاع الصناعي الذي يعتمد على النمط الاستهلاكي للانسان، او على الاقلّ هذه هي الطبيعة التي نتجت عنه وشكلت وعياً جديداً مؤطراً بالمنجز الانساني الخالص ومنتجاً لعلاقة مغايرة مع طبيعة الوجود واشيائه. ومؤكد انّ لكلا النموذجين… الانتاج الطبيعي والصناعي وانْ اعتُبرا امتداداً تكاملياً بنظرة سطحية لكلّ منهما قيم مختلفة وقواعد حياة تؤسّس لنموها وتطورها وفقاً لتفاصيل تناسب كلّ واحد منهما على حدة.
وايضاً وايضاً لكلّ نموذج مشكلاته التي تقع على شكل خسائر يتكبدها المجتمع الذي يسعى لتطبيق ما يناسبه وفق حاجاته ومقدراته، بالنسبة لشعوب افريقيا والعالم العربي تجسّدت المشكلات في الرصيد الطبيعي من الخام الصناعي والنفط ولم يكن عادلاً ان تعطي البلدان التي تملكه ثمناً له بل الرأي كان بعد الاستعمار التحكم بأنظمة فاسدة تطور الأمر الى مرحلة اختراق وعي الشعوب عبرها بصيغة متكاملة دعائياً لتسلّم امرها بارادتها . مشروع متكامل ثقافياً واقتصادياً يتغاضى تماماً عن عدم توازن الرؤية الفوقية للدول الكبرى مع واقع بلداننا، ما يفسّر ان الهدف ليس العدالة السياسية او غيرها بل احتكار حتى الشعوب لرؤية أحادية استتباعاً للاستلاب الاقتصادي عبر الهيمنة العسكرية ثم التبعية غير المباشرة او الاملاءات تحت ضغوط مختلفة. اذن يتضح انّ الطريق الى البناء الاقليمي أمر تفرضه ضرورات عديدة لكنه يبدأ بتحرير القاعدة البشرية من العوامل التي أقعدتها عن أداء دورها في خلق النهضة والتقدّم الذي يحفظ كرامة الانسان والاوطان.. التخطيط الجيد… الإدارة المخلصة التي تدرك الواقع الذي تتعامل معه ويكون لديها القدرة على توظيف كلّ العوامل الايجابية فيه ومعالجة المسبّبات التي لا تبدو واضحة الا من خلال خلفياتها التاريخية، وذلك يرجع الى انّ اغلب ازماتنا كانت نتيجة لتراكم اخطاء على مدى سنوات طويلة شكلت ملامح هذه القاعدة البشرية التي تعاني ما تعاني من آثار الحروب والإقصاء ومحاولات العزل او الاستمالة الخارجية، حتى اصبحت فعلاً تحتاج الى ان تحسّ بذاتها وبأرضها من خلال تاريخ اجتماعي غير مشوّه، الوحدة فيه تفرضها غريزة المحافظة على البقاء والتخطيط الجيد له يكون بمعالجة الصراعات وخلق حالة من الاستقرار المتفق على انه أمر مقدّس لا يمكن المساس به حتى تتمّ معالجة مشاكل الناس الحقيقية ووضعهم في موقف يمكنهم من النظر الى الحقائق بشكل عقلاني يمكّنهم من كسب وقتهم وأداء رسالة وجودهم.
انّ المعطى الاقتصادي الذي يذهب غالب الناس الى انه الاهمّ اثراً انما هو حالة متغيّرة وفقاً لشكل إدارة القاعدة البشرية والموارد الطبيعية الأخرى، وشكل الإدارة الذي يخضع للسياسة والمؤسسات السياسية بشكلها الحالي هي من أكبر الأخطاء التي تقع فيها دول العالم الثالث وايضاً نظام السوق الحرّ لتخليص الاقتصاد من هيمنة الدولة عليه، اثبتت التجارب انها تضعه في شكل احتكار آخر بالغ الضرر ليس بالضرورة عنده اعتبارات الكيان الثقافي او السياسي للدولة فتم كلّ ما نراه من تغيّر في وعينا بذاتنا وتكريس تبعيتنا للآخر. القضية مشروحة في وثائق مهولة خلفها الاستعمار بوجهيه القديم والجديد، ومنذ سنوات تحوّل الصراع الى شكل قاس من التفتيت وتشويه رمزية حضاراتنا المساهمة في نشوء هذا العالم وتطوّره، ولا بدّ من الاشارة الى انّ منابع الحضارات والرسالات الإنسانية الحقيقية مرتبطة بهذا العالم الممزق الذي نحيا عليه، وانّ هذا التمزيق هو ثمن الوجود الحضاري لشعوبنا والخلاص هو أمل الانسانية من اكتشاف وبعث روحها من جديد والتخلص من العالم المصنوع والقاتل للتنوّع، وهذه مسؤولية كبيرة تأتي في ظرف تاريخي حساس جداً تأكيداً لأنّ محاولات الإلغاء لا تسفر الا عن خراب ودمار هائلين هما نتيجة الحربين الكونيتين وبذات المقاييس ستكون نتيجة حرب قادمة اكثر فتكاً لأننا نرى اصطفاف مبدعي العولمة تجاه ايّ من يقول لا لها، وها هو حلفهم يتقدّم نحو روسيا النووية وهي أيضا تملك حلفاء رغم إقصاء ديلما روسيف المنتخبة في البرازيل بـ56 مليون صوت.