الحركات الإسلامية وشروط التقارب الثقافي
جعفر محمد حسين فضل الله
تشكّلت ثقافة المجتمع الإسلامي، بتنوّعاته المذهبيّة، في مرحلة سابقة على نشوء الحركات الإسلامية التي تعتبر حديثة العهد، فأكبرها عمراً يرجع إلى بدايات القرن العشرين في الحدّ الأقصى، مثل حركة الإخوان المسلمين يتلوه حزب التحرير في المجال الإسلامي السنّي، ويتبعهما حزب الدعوة الإسلاميّة وحزب الله في المجال الإسلامي الشيعي وهذه الثقافة تتّكئ على تاريخ عمره أكثر من أربعة عشر قرناً، وهو تاريخٌ مليء بصراعات داخليّة وخارجية ربّما تكون طبيعيّة إذا قيست بمسار تشكّل المجتمعات، ولا سيّما في دولةٍ اتّسعت جغرافيّتها بوتيرة سريعة نسبيّاً.
ليس من شكٍّ هنا في أنّ تعقيدات الفكر الإسلامي التي رافقت مسيرة المسلمين منذ وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، في ما يخصّ مواضيع مرتبطة بالعقيدة والفرق وطبيعة القيمة التي يمنحها كلُّ فريقٍ لفكره وعقيدته وفقهه ومصادره المعرفيّة وما إلى ذلك، قياساً بالآخر الذي يأخذ عادةً قيمة سلبيّة في مقابل ذلك… تلك التعقيدات كلّها رافقت تشكّل الذهنيّة الثقافيّة للجماعات المذهبيّة، على اختلافها.
ما يعنينا في هذا المقال هو تسليط الضوء على إشكاليّة أساسيّة هي: إلى أيّ مدى ساهمت الحركات الإسلامية الجهاديّة في بلورة تقاربٍ ثقافيّ في ما بينها، بحيث أدّى توحيد الهدف الجهاديّ في مقاومة الاحتلال الصهيوني والاستكباري إلى تغيّر في الأفكار والمعتقدات، ولا سيّما تلك المرتبطة بالآخر المذهبي وصورته؟
من الواضح أنّ الحركات الإسلاميّة الجهاديّة عملت على كسر الحواجز بين المجالين السنّي والشيعي، حتّى اعتُبر العمل الجهادي عنصر توحيد للأمّة ككيان إسلاميّ جامع، وتمّ التركيز عليه كعامل فريد لإلغاء الفروق وتحقيق التقارب وجسر الهوّات بين ذينك المجالين، بما يؤدّي إلى بلورة ذهنيّة إسلاميّة عامّة، تشترك في قواعد تفكيرها، ومعايير تقويمها، وخطوط أدائها العملي، بما يصبُّ في عمليّة نهوض حقيقي وخلق جبهة إسلاميّة مشتركة في مواجهة العدوّ الصهيوني الرابض على قلب الأمّة في فلسطين، والذي أدخل المنطقة العربية والإسلاميّة كلّها في خطّ توتير فتنويّ وتخلّف حضاريّ على أكثر من صعيد.
لكنّ حوادث كبرى عصفت بالمنطقة كشفت عن أنّ العامل الجهادي إنّما هو عاملٌ من عوامل الوحدة بلا شكّ، ولكنّه ليس العامل الوحيد فهو عاملٌ ذو بُعد خارجيّ، بمعنى أنّه يتوجّه ضدّ عدوّ خارجي يخفّف من حدّة التمايزات والاختلافات والتباينات والتناقضات الداخليّة تحقيقاً للمصلحة العليا، تبعاً لما يحقّقه على المستوى النفسي من اتّساع في الأفق وثقة بالنفس وشعور بالقدرة على الإنجاز ولكنّه لا يؤثّر جذريّاً في ثقافة الشعوب والجماعات والمذاهب والفرق إذا لم توجّه جهودها نحو نقدٍ ذاتيّ، وإعادة تقويم للمآل الفكري والثقافي، مستفيدة من الأفق الذي يفتحه العامل الجهادي أمام تفاعل أكثر راحةً وهدوءاً.
أبرز تلك الحوادث كان الاحتلال الأميركي للعراق، وطفت بسببه فكرة على السطح أنّ المسلمين الشيعة أصحاب طبع متأصِّلٍ في المؤامرة على المسلمين: فعلوها قبلاً تجاه «الخلافة» العبّاسيّة التي أسقطها التتار بمعونة الوزير «الرافضي» ابن العلقمي، وها هم يعيدونها مجدّداً مع الولايات المتّحدة الأميركية ضدّ نظام صدّام حسين الذي بدا أنّه بطلٌ من أبطالِ الإسلام! ولم يكن توحيد الحركة الجهاديّة مانعاً من عدم استعادة التاريخ بوجهه المأزوم، بمعزل عن حقيقته وواقعه.
الأزمة السوريّة كانت تبرز هذا التناقض في صورة أجلى وأوضح، فالشيعة الذين انتصروا على الكيان الصهيوني وحملوا لواء تحرير فلسطين كفصيل من الأمّة، ليسوا سوى الرافضة الذين اختزنت الثقافة الإسلامية السائدة موقفاً سلبيّاً منهم، وهم خارجون على «السنّة والجماعة» وأقرب إلى البدعة والشرك في أدبيّات تروّج لها تحديداً الحركة الوهّابيّة على مساحة العالم الإسلامي.
قد يختلط الأمر على كثيرين من عامّة الناس بين شيعة ونُصيريّة، وتعود إيران الشيعيّة الدولةَ الصفويّة التي كانت تقفُ في مواجهة «الخلافة» العثمانيّة، على رغم تعاونها الاستراتيجي مع تركيا في أكثر من مجالٍ، وقد انخرطت في ذلك مؤسّسات دينية عريقة لتعمل على ترويج كتبٍ صفراء عف عليها الزمن، تعتبر للشيعة ديناً غير دين المسلمين!
إضافة إلى ذلك، كانت فكرة «الخلافة الإسلاميّة» حلماً دغدغ مشاعر حركات إسلاميّة عريقة، ومن البديهي أن يخرج الشيعة من مشروعها لأنّ «الخلافة» التاريخية كانت خلافة إسلاميّة سنّية، لا علاقة للمسلمين الشيعة بها فتاريخ هؤلاء هو الرفض والخروج على جماعة المسلمين. ما جعل المواقف والحوادث تتحرّك معزولة عن السياق الجهادي كلّه الذي راكمته المقاومة الإسلاميّة الناشئة في المجال الشيعي، تحديداً في جنوب لبنان منذ عام 1982.
في المقلب الآخر، كان موقف الثقافة الشيعيّة من عدد من صحابة رسول الله يعود إلى الواجهة، ليتمّ من خلاله تأكيد الصورة النمطيّة التاريخيّة عن الشيعة، حتّى وجدناه يتحوّل إلى موقف مبدئيّ يحكم تقارب دول بأسرها، كما شهدنا ذلك في ما حصل على باب الأزهر بين بعض علمائه وبين الرئيس الإيراني السابق.
طفا على سطح التخاطب أيضاً مصطلح النواصب، وكان الجهل بالآخر دافعاً لرمي بعض الثقافة الشعبيّة كلّ مخالفٍ بأنّه ناصبيّ، وأطلقت عناوين تاريخية على الصراع الدائر، فأصبحت جبهةٌ ما هي جبهة «بني أميّة» الذين حاربوا «أهل البيت»، ناهيك عن مصطلح الرفض الذي أصبح موضع فخرٍ دونما تدقيق في مفهومه ومحتواه خلال تشكّله التاريخي.
ذلك كلّه يدلّ على أنّ لدينا مسارين:
الأوّل: مسار سطحيّ يتناول مقولات عامّة، كالوحدة والأخوّة والمقاومة والجهاد والنهضة والحضارة الإسلاميّة وسائر المشتركات، وذلك كلّه بدا أنّه آنيّ لم يساهم في تحوّل جذري في الثقافة الإسلامية العامّة، ولم يعد إنتاج ذهنيّة مختلفة عن الذهنيّة التاريخية التي يبدو أنّها سارت في نمطيّة ثابتة على اختلاف العصور والأعوام.
الثاني: مسار متّصل بالتاريخ الإسلامي كلّه وتجاذباته وصراعاته هذا التاريخ الذي راكم كثيراً من المقولات والصور النمطيّة عن الآخر المذهبي.
ما جعل المسارين يتحرّكان من دون أن يؤثّر أحدهما في الآخر في شكلٍ فاعلٍ هو انغلاق المجالين من الناحية العلميّة والمعرفيّة عن بعضهما بعضاً، ولذلك انفصل مسار الحركة الإسلاميّة في بُعدها الجهادي معها في بُعدها العقدي والمعرفي والمفهوميّ على وجه التحديد وأصبحنا نسمع – على سبيل النكتة أنّ المشكلة فحسب في جهاد المسلمين الشيعة أنّهم شيعة، وأنّ المشكلة في جهاد المسلمين السنّة أنّهم سنّة، في إيحاءٍ للمحتوى السلبي في الثقافة الشعبيّة هنا وهناك.
ممّا ساهم في إيقاف أيّ مفاعيل لتأثير الوحدة الجهاديّة، هو الثقافة الشعبيّة المبنيّة على نهائيّات المعرفة، التي تؤدّي حكماً إلى اعتبار الأنا المذهبيّة هي الحقّ كلّه، والآخر المذهبي هو الباطل كلّه، ونتحدّث هنا عن البُعد المعرفي كما هو واضح.
أضف إلى ذلك أنّ ذهنيّة التعصّب لذات الجماعة بعيداً عن القيم، ساهم في خلق حواجز نفسيّة متجذّرة في حركة المشاعر، وكان ذلك مانعاً إضافيّاً من التلاقح المعرفي، واختبار القواعد الفكرية المشتركة، وتحديد مواقع الخلاف على نحو علميّ ودقيق.
إنّ ما تتميّز به الحركات الإسلاميّة أنّها راكمت خبرة معاصرة حيال السياسة وطبيعتها، إضافة إلى الروح العلمية التي تتعامل مع الوقائع الميدانيّة ولا تأخذ بالإشاعات والمتداول غير العلمي، مع كونها تلك الحركات أطراً جامعة لشرائح واسعة من الجمهور، بما لا تملكه الدول والأنظمة ما يحمّلها خبرة حضاريّة أمام المنعطف الخطير الذي تمرّ به أمّتنا، وتفرض عليها إعادة النظر في طبيعة الحركة الثقافيّة والفكريّة النقديّة التي مارستها طوال العقود الماضية فمن يراكم خبرة سياسية في الحاضر يملك دقّة أكثر في قراءة حوادث الماضي التي لا تزال قراءتها المذهبيّة مبسّطة أو مخوّنة، بينما يمكن أن نتحدّث فيها عن عوامل متعدّدة غير محصورة بالنوايا السيّئة، ما يسمح بطيّ صفحة الماضي من دون إلقاء ثقله على الحاضر، والانصراف إلى اعتباره مصدر عبرة ودراسة تطبيقيّة للقيم وهي التي تهمّنا في واقعنا المعاصر وهي ما نُسأل عنه بين يدي الله سبحانه وتعالى.
لم نرد هنا اجتزاء هذه النقطة المعقّدة بما ذكرناه بقدر ما أردناها إشارة سريعة إلى بعض ملامح الحركة النقديّة التي تنبع من الحاضر ولا تتنكّر في الوقت نفسه لكثير من معتقداتها الأساسيّة.
في أيّ حال، قد نحتاج إلى التشديد على عدّة نقاط نحسبها أساسيّة في إيجاد مسارٍ آخر لا يعيد إنتاج الأزمات الماضية بالقوّة ذاتها:
أوّلاً: الحركات الإسلاميّة مسؤولة عن إعادة فتح المجال المعرفي والثقافي الإسلامي على مصراعيه، ومثلما تحتاج الحركة الإسلاميّة إلى اجتهاد في قضايا الجهاد على ضوء المستجدّات، تحتاج أيضاً إلى الاجتهاد في قضايا فكرية وعقدية على ضوء الخبرة المتراكمة، وهذا من عوامل تحصين ساحتها أمام أيّ نقاط ضعف ذاتية يمكن للعدوّ النفاذ من خلالها.
ثانياً: ثمّة مقولات فقهيّة أنتجها الفكر الفقهي السياسي الذي كان محكوماً بالإطار العقدي للجماعات المذهبيّة، واليوم تفرض علينا الخبرة بالواقع السياسي، وطبيعة السياسات التي تنتهجها الدول والسلطات حيال الأفكار المذهبيّة، في تبنّيها تارةً ومواجهتها أخرى تبعاً لحركة مصالحها، أن نعيد النظر في تقويمنا للتجارب السياسية التاريخية التي اعتُبر فيها الأمويّون أو العبّاسيّون أو العثمانيّون أو الصفويّون أو غيرهم ممثّلين للخلافة الإسلاميّة ولو في الذهنيّة الشعبية العامّة، في معزل عن تقويم النخب.
ثالثاً: المسار الجهادي هو من العوامل المساعدة في توسيع الأفق والنظرة إلى المشهد العامّ للمسلمين، وإلى الموقع الحضاري للأمّة الإسلاميّة حيال الصراع الأكبر بكثير من العناوين الضيّقة التي أدمنّاها في تاريخنا، واستثمار ذلك يساهم في اختصار المسافة نحو التقارب الذاتي بطبيعة الحال.
رابعاً: لا يمكن لأي تقارب فكري ومعرفي أن ينحصر في الأطر العليا للحركات الإسلاميّة، بل لا بدّ من أن يتحوّل إلى ثقافة شعبيّة فما أفرزته الأزمات الأخيرة كشفت عن وجود بونٍ شاسع بين فكر النخب وفكر الجماهير الشعبيّة في هذا المجال. بل رأينا أنّ النخب قد تجد حرجاً من التعبير عن حقيقة مواقفها من بعض الحوادث أو الجماعات فذلك يصطدم بذهنيّة الجماهير المستحكمة. وقد تدخل العمليّة هنا في حلقة مفرغة، بحيث يكون بقاء ذهنيّة الجماهير على ما هي عليه شرطاً لتماسك الجماعة المذهبيّة، ما يدفع القيادة المذهبيّة نحو تبنّي خطابين أحدهما إلى الداخل يهدف إلى شدّ العصب الذاتي للجماعة، والثاني إلى الخارج المتصل بقضايا حيويّة مشتركة مع الآخر المذهبي أو غيره وهذا كلّه يعبّر عن أزمة حقيقيّة في بنية الخطاب والفكر المنتج له.
خامساً: لا ينبغي أن يتوهّم أحدٌ أنّ أيّ مشروع للخلافة الإسلاميّة التي تعنى بتوحيد العالم الإسلامي تتمّ عبر استبعاد فصيل من الأمّة، أو مذاهب بأسرها، بل هي خلافة يندكّ فيها السنّة والشيعة عبر مسار من التقارب الذي أشرنا إليه آنفاً، في مشروع حضاريّ واحد، لا يقوم على السياسة وحدها، بل على جميع مسارات الإنتاج الحضاري، في المعرفة والثقافة والعلوم والاقتصاد والاجتماع وما إلى ذلك.
سادساً وأخيراً: استناداً إلى النقطة السابقة، فإنّ تحرير فلسطين كمشروعٍ وحدويّ جامع، يمرّ من باب توحيد الحركات الإسلامية الجهاديّة، الناشئة في المجالين السنّي والشيعي، فلا يزعم هؤلاء أو أولئك أنّ بيت المقدس لن يتحرّر إلاّ على أيديهم فهذا خلاف منطق التاريخ، والوقائع الأخيرة أثبتت ذلك. ما يفرض علينا إعادة النظر في كثير من المرويّات التي تتحدّث عن أنّه «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتّى يأتي أمر الله وهم بالشام» ونحو ذلك من الأحاديث التي يطبّقها كلّ فريق على نفسه، على قاعدة استبعاد الآخر على نحو مطلق عن أن يكون مشمولاً لها.
إنّ ما توخّيناه من هذه المقالة محاولة لاكتشاف مواقع الداء في أمّتنا فنحن جميعاً أمام منعطف خطير جدّاً لا يقتصر فيه الأمر علينا في وجوداتنا البشرية، إنّما يصل الأمر إلى الإسلام كدينٍ، ونعتقد أنّ الحرب الثقافية عليه تصنع وقائعُ لها في الميدان، ليتمّ فيه خلق حواجز نفسيّة مؤثّرة جدّاً ضدّ الإسلام، ليس لدى الشعوب غير المسلمة فحسب، وإنّما في قلب مجتمعاتنا التي أصبحت أجيالُنا الناشئة تشعر فيها بالغربة من إسلامها والله من وراء القصد.