الجيش منتصراً للوطن والشعب
علي بدر الدين
قد تكون غزوة «داعش» و«النصرة» وملحقاتهما الإرهابية لبلدة عرسال فعلت فعلها، وأحدثت صدمة وعي وطني لدى بعض القوى السياسية الغارقة في سباتها وأحلامها، أيقظها جرس إنذار خطير جداً كلّف تضحيات وشهداء ودماء، وخوفاً ورعباً من الآتي الأعظم ومن تدحرج كرة نار الإرهاب إلى مناطق أخرى، وتحريك خلاياه النائمة المنتظرة إطلاق صفارة الاجتياح الإرهابيـ لإذ لطالما هددت التنظيمات الإرهابية المعلنة والخفية لبنان واللبنانيين. وبدأت ترجمة ذلك في بلدة عرسال «الحاضنة» أو المغلوب على أمرها باعتماد عنصري المباغتة والمفاجأة أو بالضربة الأولى. غير أن حساب بيدر الغزاة لم يطابق حساب حقلهم، فالجيش استوعب الصدمة وأعاد امتلاك زمام المبادرة وتصدّى بضباطه وعناصره ببطولة وشجاعة للغزاة وأفشل مخطّطهم الجهنمي، ولم يتح لهم بقوة المواجهة والنار تثبيت وجودهم في أيّ موقع عسكري وطأته أقدامهم.
نجح الجيش بتضحياته وشهادة ضبّاطه ورتبائه وعناصره في إنقاذ عرسال والبقاع ولبنان كلّه، وأثبت للمرة الألف أنه المؤسسة الوطنية بامتياز التي يعوّل عليها اللبنانيون الآمال الكبار للإنقاذ، والضامن لوحدة لبنان وسلمه الأهلي في كل معركة وفي أي زمان ومكان.
من المؤسف والعار أن يستهدف البعض الجيش ويشكك في دوره الوطني ومسؤولياته، فيما رجاله ينزفون دماً على مذبح الدفاع عن الوطن، ويتصدون لهجمة إرهابية غير مسبوقة يدرك القاصي والداني حجم خطورتها وإجرام المهاجمين الإرهابيين الجهلة والمتخلفين الذين يذبحون ويقتلون ويهجّرون ويدمّرون وقد يأكلون لحم ضحاياهم، وأفعالهم في العراق وسورية ولبنان وغيرها تدل على أنهم وحوش أو «ديناصورات» قادمة من الزمن الغابر وإن بأشكال بشرية، إنّما من النوع النادر المنقرض. والأكثر أسفاً وخطورة في آن واحد، انخراط قلة مضلّلة من حاملي الجنسية اللبنانية تقاتل في صفوف هؤلاء أو تتواصل معهم أو ربما تفاوض باسمهم، وهم يجتاحون القرى مثل الجرذان الموبوءة ليقتلوا ويسلبوا ويزرعوا فكرهم الهدام الذي قد لا تكون البشرية شهدت مثله، ليقوّضوا ركائز المؤسسة العسكرية في لبنان التي كانت ولا تزال قوية ومتماسكة وخشبة الخلاص وجسر العبور إلى الأمن والأمان والسلام. وكيف يمكن لهؤلاء المضللين أن يهنأوا أو يستقروا في بلداتهم وبين أهلهم وهم شركاء للقتلة وقد تلوثت عقولهم وأياديهم بدماء الأبرياء ولا بدّ من ملاحقتهم ومعاقبتهم بتهمة خيانة الوطن في زمن الحرب عليه.
بعيداً عن الاتفاق السياسي ومبرّراته وخلفياته وأهدافه القريبة والبعيدة الذي كانت عرابته «هيئة العلماء المسلمين»، رغم ازدواجية مواقفها وحيادها السلبي وانحيازها، مسبوقة بتراكم توجهاتها السياسية والطائفية والمذهبية، فإن الجيش في عقيدته الوطنية والقتالية سطّر ملاحم بطولة رغم ضعف الإمكانات عدداً وعتاداً. وقد أنجز مهمّاته العسكرية في الدفاع عن الوطن والشعب والكرامة، وتحمّل مسؤولياته الوطنية كاملة من دون ثغر أو نقصان، ويسجّل له ذلك في خانة الانتصارات والإنجازات العسكرية والأمنية النوعية التي حمت لبنان وحالت دون وقوعه في المحظور مجهول النتائج والتداعيات. وعلى الأفرقاء السياسيين أن يدركوا جيداً، وأعتقد أنهم مدركون، أنه بعد غزوة عرسال ليس مثلما كان قبلها، مع أن الخطر الداهم كان حاضراً ماضياً ومستقبلاً. وهذا يرتّب على الجميع التعامل بجدية ومسؤولية أكبر مع المستجدات الأمنية، فالخطر وقع فعلاً ولا مجال للتبريرات والتأويلات والحسابات الخاصة، أو التسمُّر على طاولات الرهانات والمتغيرات الخارجية أو انتظار الحلول التي ستجيّر لهذا الفريق أو ذاك إذ سيطول كثيراً، وفي حال حصولها لن تكون في مصلحة لبنان وأيّ من أفرقائه.
إن غزوة عرسال الإرهابية تستدعي تغييراً في قواعد اللعبة المعمول بها، وفي فك الاشتباك السياسي الاختلافي السائد منذ زمن وبلا جدوى، فالمرحلة وما بعدها تتطلب الإمساك جيداً بحبال الحوادث والتطورات، وهذا يقتضي تعلم الدروس وأخذ العبر مما حصل وطي صفحات الخلافات السود أو تجميدها لبعض الوقت، فالضرورات تبيح المحظورات. ولا بد ولبنان عرضة للإرهاب والاستهداف من إطلاق مبادرة حوار وطنيّ منفتح من دون شروط مسبقة لضمان التوصل إلى اتفاق الحد الأدنى الذي يخدم الوطن ويبيد جراثيم الإرهاب القاتل المتنقل، والإسراع في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وخلق المناخ السياسي والشعبي لإجراء انتخابات نيابية صحيحة التمثيل، وضرورة دعم الجيش مادياً وعتاداً وإمكانات عسكرية، والتعجيل في تنفيذ قرار مجلس الوزراء بزيادة عديده في منأى عن تعقيدات التوازن الطائفي، فالهدف الأساس هو الدفاع عن الوطن الهوية والأرض والشعب، وتقديم الدماء قرباناً على مذبح السيادة والاستقلال والسلام. وهذه خيارات اللبنانيين التي تجلب في أبهى صورها ومعانيها في الالتفاف حول الجيش والتضامن معه في حربه ضد الإرهابيين من دون النظر إلى هوية الدماء التي سالت على تراب عرسال أو إلى انتماءات الشهداء الأبرار الذين قدموا أرواحهم عربون وفاء لوطنهم وللمؤسسة العسكرية.
بلى، انتصر لبنان وشعبه وجيشه على الإرهاب وغرزوا إسفيناً في نعش مشروع التنظيمات الإرهابية ومن يدعمهم ويموّلهم ويشغّلهم، وأفشلوا المخطط التقسيمي الفتنوي التدميري لجحافل المغول والتتار الجدد الذين لن تكون حالهم أفضل ممن سبقهم من الطغاة والهمجيين من أمثالهم، فنهايتهم حتمية وأكيدة.
على سياسيي لبنان وقادته من أصحاب الحل والربط والقرار أن يستثمروا هذا الانتصار لإنقاذ لبنان قبل فوات الأوان، فالهيكل إذا سقط يتشظى منه الجميع ولن ينجو أحد أياً يكن موقعه ووضعه وتحالفه ورهانه.
لعلّ عودة الرئيس سعيد الحريري غير المتوقعة في مرحلة التأزم السياسي والأمني تؤشر إلى تجاوز مراحل سابقة غير مطمئنة وتعيد خلط الأوراق لمصلحة لبنان وتوئد الفتنة وتضع حداً لجميع نواب كتلته أو مسؤولي تياره السياسي ووقف خطبهم المؤججة التي تساهم في أخذ البلد إلى الهاوية، وهم سيكونون أول من سيدفع الثمن وليس غيرهم. تحية إلى الجيش… والأمر لك.