مسيحيون… وعن سوريتنا مدافعون

سعدالله الخليل

على خطا معلولا وصدد وأخواتها من القرى التي دفعت فاتورة الدم غالياً، وبعد ارتكاب تنظيم «جبهة النصرة» مجزرة في قرية الزارة في ريف حماة، يسود القلق العارم على أن تواجه قرية تومين مصير من سبقها، حيث تتردّد الأنباء عن محاولة التنظيم اقتحام القرية التي تشهد حالات نزوح كبيرة.

القرية التي لا يتجاوز عدد سكانها 2600 نسمة شكلت ملجأ أمان للفارين من أهالي الرستن وغيرها من القرى المجاورة، واستضافت أكثر من مئة عائلة نازحة منهم حوالي 30 من أهالي الرستن، وتعرضت أكثر من مرة لاستهداف إرهابيي كتيبة الفاروق التي تسيطر على الرستن بالقذائف، ودفعت من دماء أبنائها شهداء وجرحى لتجد نفسها اليوم بين فكي كماشة الفاروق والنصرة وهما خياران أحلاهما مرّ.

في المأساة السورية تتشابه القصص والحكايات في الجوهر دم ودمار ومأساة بشرية وإن اختلف ابطالها، وفيما يوحد أنين الحاضر السوريين وتشتعل نيران الحنين إلى الماضي في عواطفهم، ثمة تجارب تتفرّد عن غيرها بحكم عوامل عدة، وربما تشبه تجربة تومين تجربة قرية صدد التي لم يجنبها الحياد في المعركة، ورفضها حمل السلاح خارج مؤسسات الدولة، أن تكتوي من نار الاستهداف المباشر مرتين وغير المباشر مرات عدة، فخلال السنوات الخمس ذاقت ما ذاقته أي بلدة سورية، وزفت بمواكب العز من أبنائها مدنيين وعسكريين شهداء على مذبح وطن أمّن أبنائه، بأن ذبيحة الدم قدر بقائهم على أرض كانت ومازالت وستبقى ملكاً لهم، وبأنّ بقاءهم على هذه الأرض ليس منة من أحد، ولا عطية من عطايا السياسة، ولا ناتج توافقات دولية، ولا مكرمة من مكارم أصحاب العطايا.

بعد أن تجاوز عمر الأزمة السورية السنوات الخمس، وبعد أن ذاقت لوعة الإرهاب أغلب المناطق السورية، وبالرغم من تبني أطراف عدة مسلحة ومدنية في مقلب المعارضة والموالاة خطاب طائفي، يصوّر استهداف التنظيمات المسلحة المناطق المسيحية لمسيحتيها، تثبت مجريات الحرب التي تدور في سورية سطحية هذا الطرح، حيث أدرك المسيحيون على امتداد انتشارهم في الجغرافية السورية بأنّ استهدافهم في صدد أو معلولا أو صيدنايا أو القنية في ريف إدلب وفي دير الزور والحسكة ودرعا، ليس إلا ضربا لوجودهم التاريخي الإنساني أولاً والسوري المشرقي ثانياً، دونما إنكار بأنّ الجانب الديني يضيف أوتارا لعزف أنغام مختلفة، تلقى صداها لدى المنظمات الدولية وعواصم القرار التي تطرب لخطاب كهذا.

عشية عيد الميلاد الماضي وعلى بعد كيلو مترات معدودة وضمن مرمى نيران تنظيم «داعش» الإرهابي، وقف البطريرك أفرام الثاني بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذوكس، متفقداً وداعماً ومباركاً التشكيلات العسكرية ووحدات الدفاع الشعبي بفصائلها كافة الواقفة بوجه التنظيم، بعد مبايعة المجموعات المسلحة ووجهاء قرية مهين «داعش» وإعلانهم العزم على التمدّد باتجاه قرية صدد، بوابتهم إلى الأوتوستراد الدولي حمص دمشق وإلى القلمون الشرقي ومطار الشعيرات العسكري، فالنقاط الثلاث حساسة ولا تبعد عن صدد سوى بضعة كيلو مترات، حينها احتفل أبناء البلدة على حدودها مدافعين عن أرضهم واستقبل المدافعون عن القرية بابا نويل بأغنية «استنفار استنفار الليلة استنفار» ، على لحن الأغنية الشهيرة «ليلة عيد ليلة عيد» وتقبّلوا الهدايا رصاصاً وذخيرة، في المشهد وفي الظروف أيضاً عبر تدرّس، وردّ بالوقائع على اتهامات بالهروب من المواجهة في لحظة إحقاق الحق، وهي أفكار روّجتها دوائر استخباراتية تدرك خطورة ما تروّجه.

بالرغم من فاتورة الدم التي دفعها المسيحيون على الأرض السورية، والتي لا تقلّ عما دفعتها باقي المكونات السورية، وبالرغم من النزيف البشري الذي لم يوفر قرية سورية ولا مدينة بغضّ النظر عن انتمائها، ثمة من يسعى لترسيخ صورة خاطئة وترويج أفكار وافتعال ممارسات خلاصتها بأنّ عقول المسيحين وتفكيرهم في الخارج، مهما طال أمد وجودهم في المشرق العربي، وبأنّ قلوبهم لا تطمئن إلا بحزم حقائب الهجرة، وهو ما دفع جزء من المسيحيين لإعادة النظر بوجودهم المشرقي، وطرح تساؤلات من قبيل ماذا بقي لنا على هذه الأرض؟ وهل ما زلنا ملحها ونورها أم أنّ مستقبلنا في مكان ما وراء البحار البعيدة، وهذه الأرض هل بات لها أصحاب جدد أوْلى بها.

ما الذي يطلبه الآخر من المسيحيين كصك إثبات لانتمائهم لأرض عشقوها وآمنوا بها قبل إيمانهم بالمسيح؟ سؤال يسأله السوري المسيحي حين تشير أصابع الاتهام مشكّكة بانتمائه وولائه، وأيّ برهان أقوى من ثباته على هذه الأرض طوال هذه القرون، وحين يذكر الكتاب المقدس في عهده القديم وبأسفار العدد وحزقيال قرى كصدد وربلة فأيّ منة على أهلها وأيّ متاجرة عليهم بدروس باتت في قاموسهم من المنسيات!

لا يدّعي المسيحيون يوماً تفرّدهم بتاريخ ولا حضارة، بل يؤمنون بأنّ سورية كانت وما زالت وستبقى جبهة متقدّمة للدفاع عن المسيحية والاسلام والعروبة أمام الغرب، وشكلت منذ نشأتها مثالاً للتلاحم بين الحضارات والافكار الهلينيستينية والفارسية والسريانية والهندية، وهو ما انتج نهضة عربية اسلامية وولدت ثقافة سورية مشرقية متوسطية فريدة بعيدة عن التعصب الديني الأعمى، فكما أنّ جيوش الفتح العربي ضمّت جحافل من العرب المسيحيين من بني تغلب وكليب وإياد ومضر ممن حاربوا إلى جانب إخوانهم المسلمين، فقد وقف المسيحيون في المواجهة بين الإمبراطور السوري ليو الإيسوري في القسطنطينية عام 717 و«سليمان بن عبد الملك» الخليفة السوري لفتح القسطنطينية، ولم ينجروا وراء عصبية دينية عمياء ينجرّ اليها اليوم الألوف في المشرق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى