مختصر مفيد هل نجح «فيينا» أم فشل؟
عندما يجري الحديث عن فعالية «فيينا» وجدواه، يكون القصد المسار المعروف بِاسم «فيينا» والاجتماع الأخير لدول هذا المسار. والجواب عن النجاح والفشل يستدعي تحديد معيار واضح لهذا النجاح وذاك الفشل. فليست القضية محاكمة المسار واللقاء الأخير في سياقه بمعيار الأهداف المعلنة للقيمين عليه، خصوصاً راعياه الروسي والأميركي، وهما يعلنان دائماً السعي إلى حلّ سياسيّ للأزمة في سورية، يعلمان أنه إذا تم بين الأطراف المنخرطة في محادثات جنيف، فهو لن يحقق السلام للسوريين. باعتبار أن القدرة الحقيقية للفريق الذي يحتلّ مقاعد «المعارضة» في جنيف، لا تتيح له التأثير بما يتخطّى العشرة في المئة من إجمالي الوضع الميداني في أحسن الأحوال. لتصير جدوى النجاح في تحقيق هدف الحلّ السياسيّ بتوفيرها فرصاً أفضل لحسمٍ عسكري مع الطرفين اللذين يمسكان بالجزء الرئيس من الجغرافيا والسلاح الواقعين خارج نطاق سيطرة الدولة السورية وحلفائها. فـ«داعش» و«النصرة» المستثنيان من مسار «فيينا» لا حلّ معهما إلا بالحرب وفقاً لمندرجات المعلن من أهداف «فيينا» وبيانات راعيَيه. ومثل هذا الحلّ معلوم أنه متوقف على صدقية انخراط السعودية وتركيا في الحرب على الإرهاب، وهو ما لا يبدو في الأفق، ولا يبدو أن الرهان على بلوغه قريباً في مكانه. ما يجعل العملية السياسية في جنيف إطاراً، وواجهة خارجية لتظهير ما يدور في الميدان، وأداة لقياس الضغط للجسد الداخلي المكوّن من صراع المشاريع والمواجهة بين فرصها ومصادر قوّتها. و«فيينا» كمسار و«جنيف» كإطار ولدا أصلاً تحت وطأة ما يجري في الميدان وتأثيره.
خلال الأشهر التي ولد فيها المسار وقد صارت ستة، تبلورت صورته بصفته ترجمة لملاقاة غربية تقودها واشنطن وتستجلب معها جماعاتها وحلفاءها الإقليميين، لقطع الطريق على حسم عسكريّ متدحرج بدا أن التموضع العسكري الروسي قد أطلق ديناميته، بالنجاح في جعل كل تفكير بالمضي في خطة السيطرة على سورية وإسقاط الدولة فيها، والنيل من رئيسها مشروعاً لحرب دولية وإقليمية تقف فيها كل من روسيا وإيران وجهاً لوجه أمام الآخرين. وخيار هذه الحرب سبق لواشنطن أن انسحبت منه وفضّلت عليه الملاقاة السياسية يوم جاءت بأساطيلها وانسحبت وارتضت الحل السياسي للسلاح الكيماوي السوري قبل ثلاث سنوات. وتلا هذا النجاح نجاح موازٍ بانتقال المبادرة العسكرية إلى يد الجيش السوري وحلفائه شمال سورية وصولاً إلى لجم الاندفاعة التركية عبر الحدود، وتدحرج الانتصارات العسكرية قربها، حتى صارت المعادلة القائمة تقول إنه ما لم يتم تدخل سياسيّ يستبدل هذه الاندفاعة ويُرضي أطرافها ببدائل تشبه ما حصلت عليه واشنطن في الحلّ السياسي للسلاح الكيماوي، فإن الخيار العسكري سيتحوّل إلى كرة ثلج لا يمكن لأحد إيقافها.
نشأ مسار «فيينا» عندما ارتضت روسيا تثمير الإنجازات العسكرية، والقلق من تواصلها برسم ثلاثية تسعى وتحرص على المضي فيها في مخاطبة الأميركيين ورسم المشتركات معهم التي تشكل سقفاً عامّاً لمسار «فيينا»، وتتحوّل تدريجياً بتفاصيل تترجمها في كلّ جولة. وهي أولاً سحب مستقبل الرئاسة السورية من جدول أعمال أيّ مباحثات دولية إقليمية حول الحلّ السياسي في سورية، واعتبارها شأناً سورياً خالصاً يحسم الخلاف حوله التفاوض وإلا فصناديق الاقتراع. وثانياً ربط الموقف العملاني السياسي من الجماعات المسلحة المدعومة من واشنطن أو حلفائها بمدّة قبولها أولوية الحرب على الإرهاب بدلاً من أولوية إسقاط النظام. وبالتالي التحالف مع الإرهاب لتحقيق هذا الهدف، لاستبداله بالتحالف مع الدولة السورية لخوض أولوية الحرب على الإرهاب وترجمتها. وهذا يستدعي بداية حسم الموقف من ثنائي «داعش» و«النصرة» سياسياً، وفكّ كلّ تداخل وتشابك معهما ميدانياً، والتأهل للقبول بالتعاون مع الدولة السورية وجيشها لقتالهما. وثالثاً، جعل سقف الحلّ السياسيّ حكومة سورية موحدة تضمّ من تنتجه مسارات الشراكة في الحرب على الإرهاب، تنال اعترافاً بشرعيتها وتحظى بدعم دولي وإقليمي في حربها على الإرهاب، وتعدّ دستوراً جديداً تمهيداً لإجراء انتخابات على أساسها.
نجحت موسكو في تثبيت مسار «فيينا» على الأرضية السياسية التي وضعتها، وهي أرضية تحقّق أهداف الدولة السورية في الحرب. وجاءت الهدنة ترجمة لهذه الأرضية ميدان اختبار لقدرة حلفاء واشنطن التركي والسعودي خصوصاً ومَن معهما من جماعات مسلحة لمضامين المسار. وكان فشل هؤلاء في اختبارات جنيف والهدنة، نجاحاً لمسار «فيينا» تُرجم في نصر تدمر للجيش السوري الذي مهّدت له الهدنة، التي لم تتحمّل مفاعيلها ولا شروطها الجماعات الحليفة لواشنطن بين مسميات «المعارضة» وحكومات المنطقة، فانهارت الهدنة وسقط «جنيف»، وكان لقاء فيينا بعد تفاهم روسي ـ أميركي لإنعاش الهدنة و«جنيف» معاً، وثبت من نصوص التفاهم أنه يتمسك بمندرجات المسار ويؤكد عليها ليكون اللقاء امتحاناً للدول الراعية للجماعات التي انسحبت من «جنيف» وانقلبت على الهدنة، ففشلت السعودية وتركيا في الامتحان، لكن اللقاء نجح بتأكيد ثوابت المسار وتثبيتها، ليصير غطاء للحرب إذا اختارت جماعات السعودية وتركيا خوضها إلى جانب «النصرة»، أو يصير سبباً لحرب وقائية تخوضها «النصرة» لاستئصالها إذا تردّدت في الانضمام إليها في حرب تبدو قريبة ضدّها. وما يجري في الغوطة يقول إن الخيار الثاني يستبق الأول، طالما أن فاتورة فكّ التشابك مع «النصرة» تبدو فوق قدرة تركيا والسعودية ومَن معهما.
لا حلّ سياسياً، بل عملية سياسية في فيينا ومن خلالها، ومهمة هذه العملية تؤدّى بنجاح حتى الآن لحساب تفتيت جبهة أعداء سورية وإرباكهم، وتوفير الفرص لنجاح الجيش السوري وحلفائه بتحقيق الإنجاز تلو الإنجاز بكلفة أقل وزمن أقصر. ولو مرت منعرجات تبدو في جبهة أعداء سورية قد استفادت من الهدنة واستقدمت التعزيزات والسلاح والذخائر، فها هي تستعملها لقتل بعضها في الغوطة، وها هي مناطق سيطرتهم تعود بكلفة أقل وزمن أقصر إلى حضن الدولة السورية وجيشها…
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.