سايكس – بيكو في مئويته: حتى لا تتحوّل النكبة نكبات!

أسامة العرب

شكلت مقولة مؤسّس الكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون، إنّ «الكبار سيموتون والصغار سينسون» فلسفة للتحرك الصهيوني تجاه الذاكرة الوطنية الفلسطينية، بل اتجاه الوجود الفلسطيني ككلّ. فالمشروع الصهيوني في فلسطين هو مشروع استعماري استيطاني احتلالي، سعى منذ اللحظة الأولى لقيامه إلى تغيير كافة معالم فلسطين الجغرافية والسكانية والتاريخية والدينية، حيث بنى هذا الكيان روايته التأسيسية على الكذب والزيف حين ادّعى أنّ فلسطين «أرض بلا شعب»، يجب أن تعطى لليهود الذين هم «شعب بلا أرض». كما حظي الكيان بالدعم الكامل من قبل الدول المهيمنة على المشهد السياسي الدولي، ضارباً بعرض الحائط كلّ القيم والمبادئ القانونية الدولية.

ومنذ العام 1948 تحوّل الخامس عشر من شهر أيار من كلّ عام إلى يوم الآلام بالنسبة للفلسطينيين والعرب والمسلمين عموماً، ذلك أنه شهد ثلاثة أحداث كبرى هي: زوال اسم فلسطين عن الخارطة السياسية والجغرافية، وقيام دولة «إسرائيل»، وبدء الحرب العربية ــــ «الإسرائيلية» الأولى. ولاحقاً بات الشعب الفلسطيني يستحق لقب «أكبر شعب معذّب» في العالم، حيث لا يزال الفلسطينيون حتى يومنا الحاضر يتعرّضون لأبشع أنواع الاضطهاد والتعذيب والتنكيل العسكري المنظّم، الذي يمارس عليهم من قبل سلطات الاحتلال وعصاباتها الإرهابية، بغية اغتصاب وتهويد ما تبقى لهم من أراضٍ وممتلكات لم يتمّ سلبها بعد.

وفي الوقت ذاته، لا تزال المقاومة الفلسطينية تظهر قدرة استثنائية على الصمود والتحدّي، فلا هي هَجَرت الأرض وتخلّت عنها، ولا فقدت البوصلة الوطنية أو استسلمت للسياسات الصهيونية، بل قاومت ولا تزال تقاوم كلّ محاولات الاستئصال والإلغاء بكلّ قوة وصلابة. فثمانية وستون عاماً من شغل «إسرائيل» الشاغل لإلغاء فلسطين من خارطة الوجود باءت كلّها بالفشل الذريع، خصوصاً بعدما عجز «الإسرائيلي» عن وقف الانتفاضات الشعبية المتتالية الواحدة تلو الأخرى. حيث أثبتت هذه المقاومة بأنها حقاً لا تُقهَر، لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي أو الإقليمي، حيث لا يزال حراكها الثوري يزرع الأمل في نفوس المواطنين مؤكداً بأنّ حقوقهم التاريخية كافة سوف تعود مهما علت الصعاب وكبرت التحديات.

أما السبيل الوحيد لتحرير الأرض، فلا يكفّ الفلسطينيون عن ابتكاره وتطويره، وذلك من خلال محاولاتهم الانتظام ضمن مشروع إقليمي مقاوم موحّد، ألا وهو محور ممانعة السياسات «الإسرائيلية» ــــ الأميركية في المنطقة، والذي وجهته الرئيسية كانت وستبقى دوماً تحرير فلسطين والقدس والأقصى. فيما تبعث انتفاضة القدس الأخيرة رسائل مهمة عديدة من بينها: أنّ «أوسلو» الفاشل انتهى إلى غير رجعة، وأنّ الشباب المقاوم يعبِّر عن إرادة فلسطينية جامحة لمواجهة الاحتلال «الإسرائيلي» حتى في حالة خذلان العرب له. وذلك بعدما سقط الاعتقاد الصهيو – أميركي السابق بأنّ الانتفاضة الحالية ستخبو سريعاً نظراً للبيئتين الفلسطينية والإقليمية السائدتين. لا بل إنّ وتيرة الانتفاضة تصاعدت بقوة وبشكل أربك «الإسرائيلي» وأخافه، لا سيما بسبب طغيان السمة الفردية لمفاعيلها، وهذا ما أثبت فعلاً جدوى وفاعلية خيار المقاومة مهما اختلّت موازيين القوى ومهما استسلمت الأنظمة.

لكنّ الصراع الوجودي اليوم لم يعُد حكراً على فلسطين وأرضها وهويتها، بل باتت المؤامرة الصهيونية تطال كلّ من يدعم القضية الفلسطينية سواء أكان ذلك بالسلاح أو بالمال أو حتى بالموقف. فمنذ النكبة وحتى تاريخه، شكّلت صياغة الشرق الأوسط بالمعايير «الإسرائيلية» جوهر استراتيجية الكيان الصهيوني، حيث أنّ المأساة الحقيقية اليوم تكمن في أنّ مشروع شمعون بيريز «الشرق الأوسط الجديد»، والذي حلم فيه بأن تأتي حقبة أوسلو بتطبيع العلاقات العربية مع الكيان الصهيوني، بتنا نرى اليوم ملامحها المخيفة في المنطقة، حتى بات السؤال الغالب كيف ستواجه أمّتنا كلّ هذه النّكبات المتلاحقة، فيما البعض منها ما زال يلهو في معارك الكيد السياسي والثأر القبلي وتصفية الحسابات، حتى بلغنا أسوأ محطات الانحطاط العربي؟

وفي مئوية اتفاقية سايكس بيكو، والتي عُقدت في 16 أيار 2016 بين الدبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، ثمّ ما لبثت أن توّجت باتفاقيات دولية رسمية في مؤتمر سان ريمو عام 1920. فقد بات يستشعر المحلّلون كافة وجود مشروع تقسيمي جديد يلوح في الأفق، أو ما يمكن تسميته «سايكس بيكو 2».

وقد بدأت تفاصيل هذا المشروع تظهر إلى العلن منذ أن أقدم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش على إطلاق تعبير «الشرق الأوسط الكبير» في خطابه أمام الأمم المتحدة في 21 أيلول 2004. ومرة أخرى في مطلع عام 2005 عندما أدلت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس بحديث صحافي مع جريدة «واشنطن بوست» الأميركية، أعلنت فيه عن نية الويلات المتحدة البدء ببناء ما يُعرف بـ«الشرق الأوسط الجديد»، من خلال نشر «الفوضى الخلاقة» فيه.

كما أنّ نظرية «الفوضى البنّاءة» والتي شكَّلت أحد أبرز المنجزات الإجرامية لهؤلاء، تتأسّس نظرياً على ثنائية التفكيك والتركيب. وذلك يعني بأنّ الفكر الاستراتيجي الصهيو – أميركي بصيغته الرّاهنة لم يعد لديه اليقين إلاَّ بعالم يسوده الإرهاب والقتل والتشرّد والدّمار، وذلك بغية تفكيك كلّ المواقع والجغرافيات التي تشكِّل مصادر تهديد لأمن أميركا و«إسرائيل» ومصالحهما في المنطقة.

فالتقسيم الجغرافي الناتج عن الحروب، يصاحبه تشكُّل هويّات واقتصاديات جديدة تصبح في ما بعد عائقاً أمام وحدة الدول، ما قد يؤدّي إلى تقسيم فعلي للبلاد أو إنشاء دول فيدرالية. كما أنّ الخطورة بهذا النمط من التجزئة بأنه يتمّ على أسس طائفية أو عرقية، وهو ما يبقي البلاد حبيسة لصراعات مقبلة لا تنتهي.

وعليه، فلا حلّ أمام دولنا العربية والإسلامية سوى المواجهة والتصدّي، فالمقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني سبق أن أخرجتنا من عصر الهزائم والنكبات، حيث غدت المقاومة في لبنان نموذجاً للانتفاضة في فلسطين، وسنداً للمقاومة في الجولان وامتداداً للمقاومة في العراق. كما أصبحت هذه المقاومات نواة لمحور إقليمي يوحّد قوى الممانعة والمقاومة والتغيير في المنطقة، وتحظى بدعم دولي غير مسبوق من روسيا والصين، أكبر متضرّرين من السياسات الاستعمارية الأميركية الشرق أوسطية.

كما أنّ خيار المقاومة يشكل الردّ الأكبر على السياسات «الإسرائيلية» الرامية لتمرير مشروع يهودية الدولة، بغية المباشرة بعملية «الترانسفير» أيّ تهجير فلسطينيّي الضفة وغزة والقدس، لا سيما أنّ مصطلح يهودية الدولة قد تحوّل مؤخراً إلى مسألة دولية وفقاً لتصريحات جورج بوش في خطابه في مؤتمر العقبة بتاريخ 4/3/2003، ومن ثم انتقل ليصبح شرطاً لا تستقيم أيّ تسوية في المنطقة العربية من دونه، عدا أنّ إسرائيل لا ترغب بتاتاً بالانسحاب من الأراضي المحتلة، فنتنياهو سبق أن أكّد ذلك بقوله «إنّ إسرائيل لن تبرح الجولان إلى الأبد».

هنالك اليوم مشروعان في المنطقة، الأول استعماري تفتيتي يهدف إلى نهب ثرواتنا وتثبيت الاحتلال الصهيوني على أراضينا، والثاني مقاوم ممانع يهدف لصنع الحريات وصون الكرامات. كما أنّ الصراع بين هذين المشروعين سيستمرّ حتى النهاية إلى أن يبيد أحدهما الآخر، فإما أن ينتصر العدو علينا وتتحوّل كافة دولنا مستوطنات «إسرائيلية»، لا سمح الله، وإما أن ننتصر نحن وندحر المحتلّ ونحرّر أراضينا الطاهرة من رجس الصهاينة. وسننتصر حتماً بإذن الله، لأننا أصحاب حق، بينما هم مجرد لصوص!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى