الصراع المتجدّد في لبنان.. . مذكرة التخطيط الطارئة «رقم 22» 1
منى يعقوبيان
يواجه لبنان خطر اختبار حرب أهلية جديدة في الأشهر القليلة المقبلة، كنتيجة غير مباشرة للحرب الدائرة في سورية والتي دخلت سنتها الرابعة. وعلى رغم الذكريات المرّة للحرب التي استمرّت خمسة عشر سنة، ورغبة السياسيين في فرملة العنف لتفادي استئناف الصراع، إلّا أن الضغوط المتزايدة الناجمة عن تدفق المزيد من اللاجئين السوريين وازدياد التشنجات الطائفية، تساهم في زعزعة أمن لبنان الهشّ. من مصلحة الولايات المتحدة أن تمنع تجدّد الصراع في لبنان، وهي التي تبدي دوماً امتعاضها من زيادة انتشار الفوضى في المنطقة، وتحمي أمن «إسرائيل»، وحرمان «الجهاديين» من السيطرة على الأراضي حيث يمكنهم أن يهدّدوا أمن الولايات المتحدة القومي. ثمة محاولة حلّ أو على الأقلّ التقليل من حدّة الصراع الدائر في سورية، ومنع ارتداداته في لبنان، لكن آفاق هذه الآمال قاتمة أقلّه في المدى القريب.
يمكن ـ حتى الآن ـ اتخاذ المزيد من الخطوات للتقليل من احتمالات تجدّد الصراع في لبنان. فالعمل على تعزيز قدرة مؤسسات الدولة والسعي إلى نزع فتيل التوترات الطائفية المتوترة لأمرٌ هام وضروري. مع العلم أن اتباع مثل هذه الاستراتيجية لا توصل إلى حلّ جذري للتحديات السياسية والاجتماعية في لبنان، غير أنها تهدف إلى عزل الجار الأضعف لسورية ومنعه من الاحتراق.
يتوقف احتمال تجدّد الصراع في لبنان على مسار الحرب الأهلية السورية. فعلى مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية، تدهور الوضع الأمني اللبناني الداخلي بسبب ثلاثة عوامل مترابطة بالحرب السورية الطاحنة: ارتفاع وتيرة العنف الطائفي، تزايد تدفق اللاجئين، وشلل في مؤسسات الدولة. ومن المرجح أن تستمرّ الحال على ما هي عليه بسبب عدم قدرة أيّ من طرفي النزاع في سورية من حسم الغلبة العسكرية الميدانية. وعلى رغم تعزيز النظام السوري مكاسبه الميدانية، لكنه لم يستطع إلى الآن إعلان انتصار صريح. ومع ذلك، فإن خروج النظام من هذه الحرب منتصراً، يقلّل من احتمال تجدّد الصراع في لبنان، لا سيما مع انسحاب حزب الله من هناك، ما سيخفّف من وتيرة الاحتقان الطائفي العنيف.
وهناك في الوقت عينه، سيناريو آخر محتمل حدوثه في سورية، فيما لو أطاحت القوات المسلّحة بنظام الأسد أو هدّدت قواته في دمشق، فإن الأمور ستخرج عن السيطرة بما يفوق الوصف. وسنتوقع تدفق مجموعات كبيرة من اللاجئين الدمشقيين، تمدّد السيطرة السنّيّة المتشدّدة في سورية وكذلك في لبنان، سيحتّم علينا إعادة النظر حول مدى سيطرة حزب الله ، وسيستلزم إعادة صوغ موازين القوة التي ستُحقق بقوة السلاح.
الطريق المسدودة تمثل التشخيص الأكثر قرباً للواقع. ومع ذلك، يجب عدم الخلط بين الجمود والركود. فالصراع الدائر في سورية صراع ديناميكي متحرّك، مع استمرار في التحوّلات في ساحات القتال، وتزايد تدفقات اللاجئين، وأعداد المحاربين الأجانب، فضلاً عن تعميق هوّة الطائفية والتطرّف بين المواطنين. وسيكون لهذا الجمود المستمرّ تبعات وخيمة على لبنان. تطورات ثلاثة مترابطة يمكن أن تجتمع لتنتج صراعاً لبنانياً، وهي التالية:
ـ تزايد وتيرة العنف الطائفي: إن تعميق الانقسامات الطائفية والعنف في سورية، سيلقي بظلاله على المجتمعات السنّية والشيعية اللبنانية. وتحديداً على جمهور حزب الله المعروف بدعمه نظام الرئيس السوري بشار الأسد ـ بما فيها تزايد تدفق مقاتلي حزب الله إلى سورية، ما يشحن ردود فعل طائفية سلبية بسبب دعم الحزب النظام في حربه الشعواء… عاملان مهمان يساهمان في تفعيل التوتر الطائفي وجعله يخرج عن السيطرة. يكمن الأول في تعميق الكره الطائفي، حيث يخسر القادة اللبنانيون السيطرة على مجتمعاتهم المتنوّعة ومتعدّدة الطوائف كذلك احترامهم لهم. وثانياً: يغذّي العنف الطائفي نفسه مع تكرار الهجمات الدورية التي تحضّ على الكراهية والانتقام. ينتشر العنف وينمو أكثر شرساً وحدّة وأبعد من بؤر التوترات التقليلدية ليشمل رقعةً أوسع. الخطف المتبادل، والاغتيالات والتفجيرات مع ارتفاع حصيلة القتلى من المدنيين. وستترافق هذه الحالة مع عدّة تطورات أخرى.
ـ يُملأ الفراغ في القيادة السنّيّة بوساطة عناصر متطرّفة تشجّع المجتمعات السنيّة على تشكيل ميليشيات قادرة على مواجهة حزب الله.
ـ نشهد ارتفاعاً ملحوظاً في التشدّد السنّي. تجمّعات المدنيين، بما فيها الأسواق والمقاهي، أصبحت عرضةً لتفجيرات عشوائية من قبل متطرّفين سنّة تحاكي التكتيكات التي يشهدها العراق.
ـ تلقي «الحرب الصامتة» بين حزب الله والقاعدة كما بين السعودية وإبران بظلالها على لبنان. في الوقت الذي يتوسّع فيه انتشار مقاتلي النصرة وداعش على المسرح اللبناني.
ـ يزداد غضب المجتمع الشيعي بسبب الهجمات الانتحارية التي تستهدفهم، حتى أن أمين عام حزب الله ـ المنضبط دوماً ـ يعضّ على جروحه ويساهم في التخفيف من حدّة غضب جمهوره.
ـ يزداد شعور المواطنين اللبنانيين بانعدام الأمان. إذ بدأنا نشهد تجوّل دوريات بهدف الحماية الشخصية وتعزّز اليقظة للاقتصاص الشخصي.
ازدياد تدفق اللاجئين: كلما ازداد العنف في سورية، ازداد تدفق اللاجئين إلى لبنان، لا سيما أثناء نوبات العنف الحادّة للقتال في سورية. ارتفع عدد اللاجئين السوريين في لبنان خلال الأشهر الماضية من مليون إلى مليونين، أي ما يقارب نصف عدد سكان لبنان قبل اندلاع الأزمة السورية. يطغى وجود اللاجئين السوريين على البنية التحتية اللبنانية الهشّة… فانهارت إدارة المياه، الكهرباء، والنفايات. ويعاني لبنان ـ في خضمّ موجة الجفاف التاريخي ـ من مشكلات جمّة ونقص واسع النطاق في المياه والكهرباء. ترتفع احتمالات انتشار الأمراض مع نقص في معدّات الصرف الصحي. كما تنهار نظم التعليم والطبابة العامة. يتردّد صدى ذلك كلّه في الاقتصاد اللبناني. ينهار الاقتصاد تدريجياً، ويرتفع معدّل البطالة من 15 في المئة إلى أكثر من 35 في المئة. ويغذّي هذا التراجع الاقتصادي الحادّ بدوره ارتفاع معدّل الجريمة. إن تدفقات اللاجئين الهائلة وما تسببه من مشكلات اقتصادية واجتماعية تثير حنق الشعب اللبناني المضيف.
فيستهدفون هؤلاء اللاجئين في بعض الهجمات ما يحدو بهم إلى تشكيل عصابات لحماية أنفسهم والردّ عليهم. تظهر العلاقة بين بعض اللاجئين والفصائل الإسلامية المتطرّفة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين واضحة للعيان. وهؤلاء اللاجئون السنّة من الفريقين يشتركان ـ وعلى نحو متزايد ـ في تنفيذ الهجمات على الخصوم اللبنانيين في الساحة المنقسمة على نحو متزايد.
الشلل المتزايد في مؤسسات الدولة: يكثّف الشلل السياسي في لبنان الجمود المستمرّ. فشلت الأطراف اللبنانية في انتخاب رئيس جديد للبلاد، تثبت الحكومة اللبنانية عجزها عن مواجهة التحدّيات المطروحة. والأهم من هذا كلّه، الضغط المتزايد على مؤسسة الجيش اللبناني الوطنية البطولية، وعلى سمعته المتآكلة من الأطراف السنّية التي تتهمه بالانحياز إلى حزب الله ومساندة المجتمع الشيعي. كذلك، فإن محاولات الجيش اللبناني منع المتطرّفين السنّة من عبور الحدود اللبنانية المشتركة مع سورية يعزّز من نقمة هؤلاء عليه، ما يدفعهم إلى استهداف نقاط تفتيش الجيش ومواقعه ومنشآته.
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
المقال من مجلة «فورين أفيرز» الفصلية التي يصدرها مجلس العلاقات الخارجية الأميركية الذي يتولى اقتراح السياسات الخارجية والاستراتيجيات على وزارة الخارجية الأميركية والبيت الأبيض .