سايكس ـ بيكو انتهاء الصلاحية… فهل من بديل؟
محمد ح. الحاج
مائة عام من الرفض الشعبي، ومع ذلك ترسّخت أقدام الاتفاقية التي مهّدت الطريق أمام الوعد المشؤوم… وحافظت المنطقة على تقسيماتها وكأنها سفر أو آية من كتاب مقدس…
هل نجحوا لأنهم الأكثر قوة وفهماً وأننا الأضعف والأقلّ حيلة بما كنا عليه من ضياع، أم لأنهم أقاموا عليها حراساً من ذواتنا جعلتهم مصالحهم الخاصة يتبارون في الدفاع عن كيانيتهم ومكاسبهم واقتسامهم لهذه الكيانات بتوافق رعته وأوجدته دول الغرب الاستعماري؟
القوتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا اللتان كانتا تتقاسمان العالم، خطط وزيرا خارجيتهما لاقتسام تركة الرجل المريض الامبراطورية العثمانية المتهالكة بعد الانتصار في الحرب الكونية الأولى، وكان محط أنظارهما منطقة المشرق العربي ومركزها القلب في سورية، مدفوعين بولائهما للمحفل الأعظم في باريس والذي كان يعمل لتحقيق تطلعات مؤتمر بال اليهودي لإقامة دولة على أرض فلسطين واعتبارها أرض الميعاد وعد التوراة ، وعد من لا يملك بإعطاء من لا يستحق، وهكذا كان…
إنّ تنفيذ الاتفاقية كان بحاجة لتحالفات ومقدّمات وتعهّدات من أمراء ووجهاء وقادة القبائل والعشائر وربط هؤلاء بنظام التبعية المطلقة للدولتين صاحبتي المشروع، بداية من المحميات الخليجية إلى الداخل في نجد والحجاز، وتسليح وتمويل من تأكد لخبراء الدولتين أنهم سيكونون قادة المستقبل في دويلاتهم أمارات أو ممالك أو حتى جمهوريات، وتمّ ذلك عن طريق أخذ التعهّدات وتوقيع الاتفاقيات بعد مراسلات ومباحثات مطولة مراسلات حسين مكماهون ، وبعد زمان طويل يتمّ نشر صور من بعض المراسلات، وصور شخصية لأمراء صاروا في ما بعد ملوكاً متعهّدين لبريطانيا بعدم الاعتراض على منح اليهود «المساكين» وطناً لهم في فلسطين وحمايتهم حتى تصيح الساعة الملك عبد العزيز آل سعود في رسالته بخط يده إلى الحكومة البريطانية، وصورته مع سيّئي الذكر مارك سايكس وجورج بيكو وهي من الصور النادرة التي تمّ نشرها.
لقد قامت بعد فترة الانتداب القصيرة نسبياً ربع قرن دويلات في كلّ من لبنان والشام، وإمارة شرق الأردن، ووضعت تركيا يدها على لواء الاسكندرون خلال فترة الانتداب ترضية لها من فرنسا وبريطانيا لضمان حرية الملاحة في بحارها الداخلية ووقوفها إلى جانب الحلفاء بعد نهاية الحرب الكونية الثانية وظهور أتاتورك بتوجهاته الغربية العلمانية، والتمهيد لإعلان دولة صهيونية في فلسطين بعد استكمال وضع يد اليهود على معظم الأرض الفلسطينية الداخلية بتواطؤ بريطاني غربي ودعم المنظمة الصهيونية العالمية، ولم تكن كلّ هذه التبدّلات في المنطقة بعيدة عن الرعاية الغربية والتخطيط الدقيق لاستمرار تنفيذ الاتفاقية وحمايتها لمدة مائة عام على الأقلّ، وهذا ما كان مخططا له، ويُقال اليوم إنها فقدت صلاحيتها ليدور البحث في ما هو البديل مع التطورات الخطيرة في القلب السوري المستهدف والحرب الدائرة اليوم برعاية أشدّ حراس سايكس بيكو وأكثرهم إخلاصاً في عملهم!
النظام الوراثي السعودي الملزم للخلف بوثيقة السلف يقوم على رعاية كلّ الاضطرابات في المنطقة ومنع استقرارها وتمويل الحركات التكفيرية الأصولية التي خرجت في الكثير من الأحيان عليه وارتكبت ما لم يرغب في حصوله في عالم الغرب وحتى ضمن المملكة، هذا النظام هو من يموّل اليوم ويقود الحرب على الدولة السورية التي بقيت متفرّدة عن عالمها العربي بعدم الرضوخ للمشروع الصهيوني الدولي أو مهادنته أو التواطؤ معه على حقوق السوريين الفلسطينيين في أرضهم وإقامة نظام الحكم الذي يريدونه للمحافظة على استقلالهم وارتباطهم بعالمهم الطبيعي المحيط بهم والداعم لهذه الحقوق وعلى رأسه الدولة الأمّ سورية ولقد عمل النظام السعودي بطرق مختلفة أهمّها الرشوة وشراء الذمم ورمي الوقيعة بين جهات فلسطينية والدولة السورية حماية وخدمة للعدو من منطلق الالتزام التاريخي بالحماية، وقد ترتب على هذا النظام أن ينفق مليارات الدولارات التي لو تمّ إنفاق جزء منها في دعم صمود وتسليح القوى الفلسطينية لتحرّرت فلسطين، لكن الإنفاق ينصبّ ويتجه لخدمة الفرقة والوقيعة بين مكونات العالم العربي وتخريب الأمة الواحدة السورية باعتبارها العدو الأوحد للمشروع الصهيو ماسوني واستمرارية الكيان المهدّد في كلّ حين لو توحدت المقاومة وتمّ دعمها بموقف موحد.
ينجح النظام السعودي في استمرار الفوضى على الساحة السورية مدعوماً بمواقف دول يعتبرها حديقته الفعلية في كلّ منطقة الخليج وبعض الحلفاء الذين ما زالت تساورهم أحلام وضع اليد على المزيد من الأرض السورية تركيا وطبعاً دول الغرب الشريك الأساس المستفيد من المشروع، تتجاوز الفوضى سنواتها الخمس لتتلاقى مع مئوية سايكس بيكو التي ترسّخت جذورها ونجح حراسها على مدى الأعوام المائة في الحفاظ عليها، ولقد تمّ الدفع بالدولة السورية الشام إلى الخلف عقوداً بعد تخريب اقتصادها وتحطيم بناها العلمية ونهب ثرواتها ومحاصيلها وتحطيم أمنها الاقتصادي الغذائي بنسب كبيرة، لكنه لم ينجح في كسر صمودها وممانعتها وهزيمة جيشها العقائدي الذي لم يخسر إلا بعض نقاطه المتباعدة والتي كان من غير المتوقع تعرّضها لهجوم عدو باعتبارها داخلية وبعيدة عن خطوط المواجهة، ومعلوم أنّ الانتشار العسكري لا يطال أغلب الأراضي التي سيطرت عليها منظمتا «داعش» و«النصرة» الارهابيتان وبعض من تفرّع عنهما من مسمّيات ترعاها وتتبنّاها دول الغرب وترفض تصنيفها إرهابية رغم انكشاف ترابطها العضوي مع التنظيمين الإرهابيين.
الحرب الدولية على الساحة السورية بتعدّد أقطابها وداعميها ومرتزقتها من أغلب دول العالم وبما يتوفر لها من رعاية سعودية خليجية تركية، دفعت بالدولتين العظميين روسيا والولايات المتحدة الأميركية ـ إلى دخول مباشر ونشوء خطوط تماس بينهما على الأرض السورية رغم التستر بواجهات أخرى من قبل الطرف الأميركي وحدات سورية الديمقراطية وغيرها والاتجاه الحالي للحلول محلّ «داعش» في المناطق الشرقية وما يُشاع عن تفاهم روسي أميركي في هذا المجال… أو التنبّؤ بقيام محاولات من قبل الطرفين للسيطرة والتسابق في محاربة «داعش» من قبل الأميركان.. وعدم استثناء «النصرة» من قبل الروس، ويبقى السؤال من يسبق من، وأين هو موقع الجيش الوطني؟
ما يُشاع اليوم عن مباحثات سرية روسية أميركية لاقتسام المنطقة بعد القيول بسقوط اتفاقية سايكس بيكو لتحلّ مكانها اتفاقية قد تأخذ مسمّى كيري لافروف، وتمديد مفاعيلها إلى ثلاثمائة عام مستندة إلى دراسات ومقترحات الثعلب الصهيو أميركي كيسنجر يثير زوبعة من التساؤلات الداخلية والتحليلات، البعض منها يرفض اتهام الروس بالتواطؤ مع الأميركي، والبعض الآخر يحاول تفهّم المصالح الروسية التي لا تتحقق بمنأى عن مثل هذا التفاهم، شريطة الحفاظ على وحدة الأراضي الحالية للجمهورية ومنع التقسيم أو وضع اليد من قبل الطرف التركي في الشمال والشمال الشرقي وأيضاً منع إقامة قواعد ارتكاز أميركية وفرض فيدرالية عرقية هناك.
كلّ التحليلات قد لا تجانب الحقيقة، وربما يتحقق بعضها، لكن الحقيقة الوحيدة التي لمسها الجميع هي سقوط سايكس بيكو بعد تحقيق الغاية الأساس منها، والتأكد من أنّ الحراس الذين رعاهم وانتدبهم الغرب قد نجحوا في مهمتهم رغم المعارضة والرفض الشعبي الذي رافق سنوات الاتفاقية الملعونة، فهل يكون البديل هو الأسوأ وعهدنا أنّ الغرب، وحتى القوى الكبرى على اختلافها تخطط مشاريعها لمائة أو لمئات الأعوام، ونبقى نحن وعالمنا الثالث في محلّ المفعول به، وربّ قائل بأنها نبوءة متشائمة، وأقول أين هو الواقع الذي يفرض على المتابع والمحلل ألا يكون متشائماً؟