د. محمد المجذوب: العروبة الصادقة
بشارة مرهج
حيثما حلّ الدكتور محمد المجذوب ابن صيدا البار تحلّ معه الأخلاق الرفيعة، والمشاعر النبيلة، والسيرة الحسنة، واليد الناصعة والنفس الرضية.
وعندما تفتح الأبواب ويطلّ منها الأستاذ الأكاديمي العريق تطلّ معه فضائل العلماء، ونفحات الأتقياء تسابقها الغيرة على الحق مصحوبة برفعة العنفوان الواثق وسحر القوة الكامنة.
انه مفطور على الودّ والسماحة، مسكون بجمال داخلي عميق، يجعلك تثق بالحياة وكنوزها، ويجعلك تكتشف مرة أخرى روعة الخلق الإلهي وقيمة الإنسان في هذا الكون، إذ يحمل فوق كتفيه مسؤولية العطاء فيقبل بنفسه الضعيفة الى نهر الحياة يضيف قطرة، أو فكرة، او مأثرة فتكتمل الدائرة وتمتلئ الخلايا بطاقة الحياة.
وأستاذنا الكبير الذي اعتاد طيلة حياته ان يمخر نهر الحياة الصاخب متغلّباً، بثبات الإرادة وقوة الشكيمة، على النزعات العارضة والمغانم الملتبسة والمكاسب المستترة، آثر أن يكون من رعيل العلماء الذين يهبون أنفسهم للعلم والبحث والتبليغ، ويوطدون علاقتهم بالحرف والكلمة والكتاب والمكتبة، وصولاً الى إنتاج الأفكار وابتكار الصيغ التنظيمية والقانونية والدستورية التي تجعل من المجتمع كياناً محصّناً بالدولة الحديثة القائمة على أسس ثابتة لا تهتز كلما هبّت عليها ريح او تنكّر لها حاكم هزمته الغريزة واستبدّت به المصلحة.
انه ناسك من العصور الغابرة يفيض رقة ومودّة وحبوراً. وهو يعيش بيننا يثري مجتمعنا ويضفي عليه أبعاداً سامية راقية تكاد أن تحجبها دورات الحياة المتوالية الملوثة بالمال الحرام والأنانية المفرطة.
محمد المجذوب هو من أصحاب العقول النيرة والنفوس المنزهة التي تنجذب إليها في هذه الحياة الحديثة المشدودة الى دوائر الاستهلاك ومواقع الانحطاط. في نفسيته يتجلى ميزان العقل والحكمة، وفي تصرّفاته يسمو الاعتدال وتشرق الفضائل فكأنه روح لطيف يخشى على غيره أكثر مما يخشى على نفسه.
فالحديث اليه ذو شجون، والمناقشة معه متعة روحية وفائدة علمية. محضره غني ورفيع يسمو بك الى حيث تتوهّج العاطفة وتتوثب الروح. انه محضر العلماء الذي ان تذوّقت رحيقه طلبت المزيد، فأيّ نعمة يسبغها الخالق على المخلوق اهمّ من هذه النعمة التي تأخذ بيدنا الى حيث السكينة والينابيع المتدفقة.
الدكتور مجذوب لا يتحدّث عن المستقبل بصيغ باردة او عبارات جوفاء وانما يستحضره ويعيد صياغته ليقدّمه الى الشباب مفعماً بالحياة مترعاً بالمعاني غنياً بالعبر. فالمستقبل هو الحضور والحركة والبناء بالنسبة للشيخ الجليل الذي يسابق الشباب حيوية وإنتاجاً. ولكلّ ذلك يمثل لي الدكتور مجذوب فكرة الأمل بمعانيها العميقة الجميلة. رجل في خريف العمر، بعد مسيرة حافلة في التعليم الجامعي وإدارة المؤسسات وعمادة كلية الحقوق ورئاسة الجامعة، لا ينكفئ الى منزله ومكتبته وكرسيه الهزاز وحديقته المفترضة، بل ينهض في الصباح الباكر ويشرع في العمل وكأنه في ريعان الشباب. يدرس لساعات، يقرأ الرسائل ويعلق عليها، يناقش أطروحات الدكتوراه، يرعى أعمال «المنتدى القومي العربي» وينشط في «المركز الثقافي الإسلامي» كما في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية».
فهو لا يكتفي بما أحرز وما أنجز ليقف أو يجلس في مقهى مستعرضاً مع رفاقه مواقفه ونضالاته وذكرياته بل هو يعد نفسه كلّ يوم بعمل نافع يزيد الأرض اخضراراً والمجتمع حيوية.
انّ تجربته التي تصبح يوماً بعد يوم ملك طلابه وأصحابه ومجتمعه هي تجربة مثيرة فريدة، ولكن أجمل ما فيها أنها تملأنا بالأمل وتعزز الثقة بأمتنا وقضاياها العادلة التي ينهشها الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي. فبينما الزعماء والرؤساء يفشلون في وقف التداعي، ورأب الصدع، وتعبئة الجماهير وتنظيم المجتمع لردّ العدوان المستمرّ من تلك القوى الغاشمة المجبولة بالعنصرية والتعصّب نراهم يتناحرون ومن المسؤولية يتنصّلون حتى تذهب ريحهم فيترسّخ الاستبداد وينتشر الفساد ويستقرّ الاستعمار على أرض الأجداد. وإزاء هذا الانهيار الذي استفحل واستطال لا يستسلم محمد المجذوب أبداً بل هو يجرّد سيف العقل والتنظيم وينخرط في مسيرة نضالية لا تتوقف لكشف حقيقة الاستعمار والصهيونية، وتوعية الشباب لمخاطر الاستكانة والخضوع نافخاً فيهم روح العروبة والاستقلال، متقدّماً الصفوف في كلّ محفل واحتفال، حاملاً الراية وكأنه في سنته الجامعية الأولى نصيراً للعدالة وحقوق الشعوب، داعياً الى سيادة القانون وتحصين المجتمع وحماية الميثاق الوطني وتحقيق الوحدة القومية. ومع ازدياد حملات التشكيك على العروبة يرفع محمد المجذوب لواء العروبة الحضارية متصدّياً لكلّ من يريد النيل منها او تشويه سمعتها، رافضاً بإصرار عملية الربط الملتبسة بينها وبين بعض دعاتها من الأنظمة الفاسدة او الجماعات المتعصّبة. فالعروبة بالنسبة اليه «هوية ثقافية وانتماء ارادي لا يتأثر بأيّ سلوك وأيّ تصرف، ولا يتبدّل مع توالي الانتصارات او الهزائم».
وأضيف معه أنها رابطة حضارية هدفها عز العرب واستقلالهم واستقرارهم بالتعاون مع القوميات الصديقة وليس على حسابها.
فكما ترفض العروبة الاعتداء على احد ترفض اعتداء ايّ طرف عليها، همّها استعادة فلسطين كاملة الى أهلها وإشاعة السلام القائم على الحق والعدل بين الأمم والشعوب. وفي هذا السياق يردّ الدكتور مجذوب على كلّ دعاوى التزمّت والتطرّف والغلوّ فيقول مع كبار الاسلاميين المتنوّرين «الإسلام ليس هوية سياسية ولا يمكن ان يكون كذلك، واذا اصطبغ بلون سياسي أصبح عامل تقسيم وتنافر بين أبناء الدين بل بين أبناء المذاهب الاخرى»، واذ هو يقرّ بالقاعدة الشرعية التي تنصّ على تغيّر الأحكام بتغيرّ الأزمان، فأنه يقول: «انّ التقيّد الحرفي بما كان يقول به السلف ليس من الواقعية ولا من مقتضيات الإيمان الحق»، وكأني به في هذا المجال يريد من الإنسان العربي الجديد ان يكون انساناً مؤمناً منتجاً مبدعاً يغوص في دوائر الماضي دون ان يغرق فيها مكرّراً مقلداً، وانما ليتمثل روائعها ويعيش عظمتها فيعود من رحلته الذهنية حاملاً رسالة التوحيد والأخلاق والعمل الصالح، مستلهماً روح العدل والمساواة والبساطة وكل ّالفضائل التي طبعت عهد السلف الصالح.
وتتجلى أهمية الأفكار التي يدعو لها الدكتور محمد المجذوب في انها تنبثق، بشموليتها وموضوعيتها، من عمق الإيمان الديني كما من قلب المعاناة القومية فتأتي سلسة مقنعة معتدلة لا تكلّف فيها ولا افتعال.
على انه حين يندفع في مشاعره القومية لا تفوته الأخطاء والثغرات فيسلط سلاح النقد العلمي البنّاء رغبة بالتصحيح والتقويم لفكرة او موقف او مسيرة. فمحبته الجارفة لجمال عبد الناصر القائد العربي الفذ في مقاومته للاستعمار لم تصرف نظر أستاذنا عن أخطاء النظام وممارسات بعض أركانه الذين سقطوا فريسة التملك والتسلط والاستبداد، وسخروا من تضحيات مواطنيهم وتضحيات جنودهم فكانوا البلاء ضمن الكيان والثغرة الكبرى في الميدان. فالعروبة اذا لم تكن ناصعة متماهية مع الحق والإيمان تتحوّل الى كلام فارغ في أفواه المتملقين والمنافقين.
والحق اذا لم يعترف به وتطبّق مبادئه على الناس يصبح نظرية يردّدها مقلدون يجهلون سرّ الحياة او يدوّنها كتبة فقدوا القدرة على التجديد والإبداع.
وهنا يشدّد الدكتور مجذوب على تلازم وتكامل مسيرتين تعوّد كثيرون تأجيل إحداهما بحجة الانصراف الى مواجهة الأخرى. فبنظره لا يمكن مقاومة العدوان الخارجي على الأمة اذا كان الطغيان او الاستبداد او القمع او انتهاك حقوق الإنسان مستشرياً في البلاد بلا حسيب أو رقيب. واحسبه يقول أيضاً انه إذا كان النظام جدياً في مقاومة الاحتلال الأجنبي فكيف لا يطبّق الديمقراطية ويوفر الحريات ويستعين بالشعب ويطلق طاقاته في معركة تحتاج الى مساهمة كلّ مواطن كي تأخذ طريقها الى النجاح.
انّ الحديث يطول عن الدكتور محمد المجذوب لمآثره الساطعة وخصاله الحميدة وأعماله الرائدة، ولكني سأختم بقصة لا يعرفها الجميع. في سنة 2004 جرت مشاورات نيابية حول الشخصية التي يمكن ان تتبوأ سدة رئاسة مجلس الوزراء. يومها كنت لا أزال عضواً في مجلس النواب – ولكن خارج كتلة نواب بيروت – التي كنت قد استقلت منها لأسباب تتعلق بعملية «دمج المصارف» المخزية، والحرب الظالمة على العراق وموقف لبنان الرسمي المتردّد إزاءها.
يومها تشاورت مع إخواني وأصدقائي في مقدّمهم رفيقي معن بشور في من أرشح لرئاسة مجلس الوزراء فكان إجماع على ترشيح الدكتور محمد المجذوب لهذا الموقع الرفيع.
رشحناه يوم ذاك لا لكونه أكاديمياً مجلياً ورئيساً للمنتدى القومي العربي او عضواً في المركز الثقافي الإسلامي ومؤسسة الدراسات الفلسطينية او عضواً ورئيساً للمجلس الدستوري بالوكالة، حيث أبلى البلاء الحسن، وانما رشحناه لقناعتنا بأنّ الدكتور مجذوب هو من أفضل الشخصيات الوطنية والقومية لتولي رئاسة الحكومة في تلك الفترة المتفجرة في تاريخنا المعاصر، فهو رجل مؤمن محصّن ضدّ الإغراءات، ملتزم بالقانون، متمسك بالقيم، متبحّر في الفكر، باحث في الشؤون الدستورية وقبل كلّ شيء وفيّ لشعبه ودولته لا يميّز بين لبناني وآخر، يرفض المحاصصة والمنهج الطائفي ويؤمن بالديمقراطية وتكافؤ الفرص.
اني اذ أشكر المركز الثقافي الاسلامي ورئيسه الدكتور عمر مسيكة على مبادرته الكريمة في إقامة هذه الندوة أحيّي المكرمين النقيب محمد البعلبكي، والدكتورة لواحظ مسيكة عبد الرؤوف، وأحيي الدكتور محمد المجذوب راجياً له الصحة والعافية والعودة الى ميادين النضال.
كلمة ألقيت قبل أيام من رحيل الدكتور محمد المجذوب في حفل تكريم فرسان الإعلام والعلم والقانون بدعوة من مجلس أمناء المركز الثقافي الإسلامي، وتحدّث فيها أيضاً د. وجيه فانوس، والوزير ادمون رزق، ورئيسة الهيئة النسائية في المركز د. فتنت مسيكة بر.
وزير سابق