معركة الاستقلال بعين وقلم الرفيق توفيق رافع حمدان
إعداد: لبيب ناصيف
في كتابه «سيرة ومسيرة» يورد الرفيق توفيق رافع حمدان 1 قصة معركة الاستقلال واستشهاد الرفيق سعيد فخر الدين.
ننشرها بالنص الحرفي لفائدة الاطلاع.
« كلما أطلّ شهر تشرين الثاني من كلّ سنة ترامت لي أيام مراحل الاستقلال. ففي أوائل تشرين الثاني عام 1943 اعتقل المستعمر الفرنسي بعض أركان الدولة اللبنانية حينذاك بشارة الخوري- رياض الصلح- كميل شمعون- وعادل عسيران في قلعة راشيا ولم يستطع اعتقال البعض الآخر: المير مجيد أرسلان، صبري حماده وحبيب أبو شهلا الذين توجه بهم المير مجيد الى بلدة بشامون في قضاء عاليه وقبل وصولهم اليها توقفوا في ساحة بلدة عين عنوب… وما ان علم المواطنون حتى تجمهروا حول سيارة المير مستفسرين الأمر. فحيّاهم وطلب منهم موافاته الى بشامون وهناك علموا حقيقة الوضع بالتفصيل، وعمّ الخبر المنطقة وبدأت تتقاطر الوفود. فلم تمض ساعات حتى كانت بشامون تعجّ بالشيوخ والشباب والأشبال من جميع مناطق عاليه والشوف والجرد. أما لماذا اختار المير مجيد بشامون ملجأ له ولرفاقه، فلأنّ الطريق لم تكن نافذة وليس لها مدخل إلاّ من عين عنوب ولأنّ المير له صداقات فيها. امنتها مع أبو معروف توفيق سعيد عيد، ولأنّ بلدة سرحمول جارة بشامون تعتبر قلعة محصنة يصعب الوصول اليها أو خرقها. وعلى الأثر قطعت الطريق المؤدية الى بشامون من عين عنوب عند محلة السنديانة الشهيرة، سنديانة الاستقلال، التي شهدت معركة الاستقلال ولا تزال الشاهد الحي على بطولة الثوار من الأشبال حتى الشيوخ. وبقطع الطريق لم يعد بامكان جند المستعمر الوصول الى مقرّ «الحكومة المؤقتة» في بشامون. وتوالت وفود المسلحين تصل الى عين عنوب واذكر أنّ أول الواصلين من العسكريين كان البطل القومي الاجتماعي أديب البعيني ونعيم مغبغب ومن المواطنين الشيخ أبو أمين فريد موفق شقيق الشهيد معروف موفّق 2 الذي أعدمته حكومة الاستقلال في ما بعد. واذكر يوم وصل فجأة المناضل العسكري عساف كرم احد قادة القوميين الاجتماعيين ظنه البعض ممّن لا يعرفونه شخصاً أجنبياً نظراً لبشرته الشقراء. ومن الأمور التي لا تزال عالقة في ذاكرتي ذلك الاندفاع العفوي من المواطنين. فقبل أن تنتظم الأمور ويتأمّن المطبخ لغذاء المقاتلين كنت ترى أفقر مواطن في البلدة يحرم لقمة العيش عن أولاده ليقدّمها للثوار الذين تركوا أولادهم وعيالهم وجاؤوا ليمنعوا المستعمر من تحقيق أهدافه.
« وفي الواقع لم يكن الشعب مؤهّلاً للقيام بثورة أو لصدّ جيش احتلال فيه المرتزقة وغيره وغيره… ولم يكن السلاح متوافراً عند المواطنين. اذكر أنّ شباناً لا يملكون بارودة ـ مارتينه ـ وعندهم سلاح صيد ـ جفت ـ حملوه وذهبوا للمعركة، ومنهم من نبش بارودته من تحت التراب حيث كان يخبّئها وقد تآكلها الصدأ ومن المحتمل ألا تطلق رصاصها..! أما العسكريون فكانوا قلائل أبرزهم كما قلت الجندي الفار المناضل القومي أديب البعيني الذي حمل عبئاً ثقيلاً في المعركة. فعليه تقع مسؤولية تنظيم الشباب، وقليلون جداً من لديهم أية خبرة في هذا المضمار. فلم يهدأ ولم ينم.
« وأذكر بعد حوالي عشرة ايام من بدء «الثورة» رافقته الى أحد البيوت في البلدة وطلب أن يغسل رجليه ولما خلع «جزمته» كانت قدماه أشبه «باللحم المسلوق» فقد كانت المرة الاولى التي يتسنى له نزعها وغسل رجليه منذ بدء المعركة… وعندما كانت قوات الاستعمار تحاول الاقتحام كان أديب البعيني وحده يطلق من «مترليوزه» طلقات عدة من أماكن عدة ينتقل اليها بسرعة فائقة ليوهم العدو أنه أمام قوة ومعدات لا يستهان بها. والواقع كان «مترليوز» أديب يتيماً… فكانت القوات تعود لتزيد قوتها وتعيد الكرّة. قد يُقال انّ السياسة واجتماع «سبيرس» مع المير مجيد وحبيب ابو شهلا في بيت الاستاذ أمين خليفة في عين عنوب الذي رأيناه نحن، واعتقد أنّ هناك صورة تذكارية للاجتماع مكبّرة ومعلّقة على حائط ذلك البيت، قد يكون الاجتماع ذلك مهدّ سياسياً لإنهاء الانتداب. ولكن بالنسبة للمواطن الذي حمل سلاحه بل «حمل دمه على كفه» حسب التعبير فكان على استعداد أن يضحّي بكلّ ما يملك. وكان البعض يؤمن أن الدماء التي تجري في عروقه هي ملك للأمة متى طلبتها وجدتها. وها هو موعد الاستحقاق لكي نتخلص من المستعمر، ومن بين المندفعين كان القومي الاجتماعي الرفيق سعيد فخرالدين، فعندما أعادوا الكرة وجاؤوا من جهة بلدة عيتات، كنا نحن أول من شاهدنا المصفحات تتجه من عيتات، وذلك لأنّ بيتنا مقابل لبلدة عيتات، فركضت أنا وأخي لنخبر المقاتلين بمجيئهم ايّ الفرنسيين حتى لا يؤخذوا على حين غرّة… ولليوم أندهش عندما أفكر في تلك السرعة التي وصلت بها الى محلة السنديانة ومنها لخندق أبو عتمة أول بشامون حتى عمّمنا الخبر على جميع المقاتلين… ولما وصلت مصفحات العدو الى قرب السنديانة أمام حاجز الحجارة محاولين فتح الطريق للوصول الى بشامون مقرّ الحكومة وعندما ترجّلوا لإزاحة الحجارة قتل لهم أكثر من قتيل… ولكنهم استمروا في محاولتهم وتقدّموا لنشل الجثث فما كان من الرفيق سعيد فخر الدين الذي كان محتمياً خلف شجرة الزيتون الا ان شرع القنبلة في يده محاولاً قذفها على المصفحة غير أنّ رصاص العدو كان أسرع منه فسقط شهيداً.
«ساحة مجد نزلوا عليها تنين
هييّ حديد مصفح وقلبو حديد»
« وانسحبت المصفحة الى حيث أتت وعندما تجمّع أهالي البلدة لدفن الشهيد أمام بيته أطلق جنود المستعمر الرصاص على المجتمعين من أول قرية عيتات… ولا تزال الحفر التي أحدثتها تلك الرصاصات في حجارات بيت سعيد فخر الدين ظاهرة لليوم.
« بعد هذه المعركة وبعد فشل المستعمر من الوصول الى مقرّ الحكومة الموقتة الذي اتخذته في بيت المواطن حسين الحلبي، وهناك صيغ العلم اللبناني، أرغم المستعمر على إطلاق سراح المعتقلين في راشيا ليعودوا الى تسلم السلطة في 22 تشرين الثاني سنة 1943 واعتبار لبنان بلداً حراً مستقلاً.
« ولأنّ الدولة لم تقم بواجبها نحو المنطقة والبلدة التي قدّمت شهيد الاستقلال الوحيد فقد كنا في بعض السنوات نتنادى، الفاعليات والنوادي والبلدية، لإحياء مهرجانات بهذه الذكرى وأول مرة كانت تمثيلية لأديب الحداد أبو ملحم 3 «عرس لبنان» مُثلت في عين عنوب، وفي سنة 1968 أقمنا مهرجاناً خطابياً في باحة قصر الأمير مصطفى أرسلان ـ الميدان ـ وكان لي شرف التكلم باسم البلدية وكنت أحد أعضائها، ومما قلته: اننا نسجل تقصيراً على الدولة اللبنانية ونطلب منها ونعتبره واجباً أن تضع في برنامجها السنوي لهذه المناسبة زيارة مقرّ حكومة الاستقلال الموقتة في بشامون وزيارة ضريح الشهيد سعيد فخر الدين في عين عنوب، فإذا كان في قلعة راشيا اعتقل المستعمر بعض أركان الدولة اللبنانية فإنّ أهل بشامون وعين عنوب فتحوا بيوتهم وقلوبهم لاستقبال بقية أركان الدولة وضحّوا بأرواحهم فدى الاستقلال.
وختمت كلمتي بقطعة من الشعر القومي:
لما علينا الكون شوهر من بعيد
وشاف بسما لبنان بهجة عيد
تفاجأ تساءل هالحدث نوعه فريد
تنصّت سمع أصوات ذكرى تستعيد
ذكرى نفير الحق في وجه العبيد
يعلن إرادة شعب: يا استعمار حيد
ذكرى البطولة تزغرد ويهجم «سعيد»
هجمة بطل مؤمن بإيمانه عنيد
ذكرى الشهادة الكوّنت إلنا رصيد
بين الأمم… والشعب أصبح سيد
ومن وقتها التاريخ سجل من جديد
عيد استقلال لبنان المجيد
وبعدنا ومنضلّ فدى استقلالنا
في كلّ رمشة عين منقدّم شهيد
يبقى أن نذكر أنّ البطل البعيني قتل داخل حرم القصر الجمهوري في عهد بشارة الخوري بيد سليم الحرّان أحد أزلام الرئيس، وانّ مرسوم إقامة نصب تذكاري للشهيد سعيد فخر الدين رقمه 3456 تاريخ 13 – 9 – 1980 لا يزال حبراً على ورق.
توفيق رافع حمدان 1927-2009 ، نقلاً عن مؤلفه «سيرة ومسيرة»
ولد الرفيق توفيق رافع حمدان بتاريخ 26 شباط 1927 في عين عنوب.
تعلم في مدرسة المطران الانكليكانية في عين عنوب.
انتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي سنة 1943.
تعرّف على الزعيم الخالد انطون سعاده سنة 1947 فترة مذكرة التوقيف بحقه في بيته في عين عنوب.
أثناء إعلان الثورة القومية الاجتماعية الأولى كان موظفاً في المساحة في مزرعة يشوع – المتن.
بعد إعدام الزعيم أنطون سعاده ورفاقه حاول اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح بتاريخ 9/3/1950.
حكم عليه بالاعدام في 24/5/1950 وفي 2/6/1950 استبدل الحكم بالسجن المؤبد. أسّس مع رفاقه في السجن مدرسة وزاد علومه وثقافته ودرس المحاسبة بالمراسلة. أخلي سبيله مع رفاقه القوميين الاجتماعيين في 11/9/1957 .
تزوّج من الرفيقة عفاف نايف شجاع التي كانت تعاهدت وإياه على رفقة العمر في السجن أو خارجه.
بنى أسرة قومية اجتماعية بامتياز من رفيقة و4 رفقاء.
تحمّل مسؤوليات حزبية فمنحه الحزب وسام الواجب.
من مؤلفاته قصائد شعرية صدرت في ديوان «قصائد من حياتي» وقّعه في آب 2005 وكتاب مذكرات تحت عنوان «سيرة ومسيرة».
توفي في 3 آب 2009 وأقيم له مأتم شعبي وحزبي حاشد ألقيت فيه كلمات أشادت بمناقبه ونضاله.
هوامش
1 توفيق رافع حمدان: تميّز طيلة حياته الحزبية بالجرأة والصدق والشفافية وبالتزام عقيدة الحزب وقواعده الدستورية، والمناقبية في كلّ مواقفه. شدّتني إليه اواصر المحبة والتقدير، وكنت أكنّ له الكثير من الاحترام وأرتاح الى ما كان يمثل من قيم النهضة.
2 معروف موفق: من «دير قوبل». شهيد الثورة القومية الاجتماعية الأولى. للاطلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول الى قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
3 عساف كرم: من بلدة «زبوغا» شهيد الثورة القومية الاجتماعية الأولى. للاطلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول الى قسم «من تاريخنا» على الموقع المذكور آنفاً.