نتباهى نحن كلبنانيين
ناصر قنديل
عندما يتباهى ويتغنى بعض السياسيين والكتاب اللبنانيين بلبنان، يحاول المراقب التمعن لمعرفة ماذا يجدون في لبنان سبباً للتباهي مما صنعتهم أيديهم، فالطبيعة الخلابة والمكانة الجغرافية، هبتان من الله، لا فضل لهم فيهما، والتاريخ بشقيه البطولي والإنساني اللذان يتباهى اللبنانيون بهما، كل من زاوية مناقضة للآخر لم يسمحا بكتابة تاريخ موحد لهذا البلد الصغير، فلم يجمع بعد أبناؤه على تحديد ما إذا كان رجال ما سمي بعهد الاستقلال هم أبطال وطنيون أم أتباع للأجنبي، ولا بتحديد مكانة الأمير فخر الدين والأمير بشير ومثلهما يوسف بك كرم وطانيوس شاهين وصادق الحمزة في ذاكرتهم الجماعية بقراءة تسمح بالتباهي بلغة الوجدان الجمعي للبنان واللبنانيين.
التدقيق بالتباهي وخلفياته، يكشف أن القصد هو شيء آخر على رغم ضرورات المقدمة عن التاريخ والبطولة والأبجدية والطبيعة، فهي على طريقة مقبلات المائدة اللبنانية، لكن الطبق الرئيسي سرعان ما يتكشف عن تمجيد ما لدى اللبنانيين في حياتهم السياسية، مما يفتقده أقرانهم العرب، والقصد هنا يبدأ بالحرية الإعلامية خصوصاً، ولا يكاد ينتهي بنمط الحياة الاجتماعية، من ذوق الملبس والمأكل وإتقان اللغات الأجنبية، ومهارات السياحة والمصارف والخدمات، ويبدأ الدخول في مكون الطبق، نظام سياسي يحفظ التعدد والمشاركة ويحمي وجود الأقليات، ويمنع التطرف، ويقدم ديمقراطية لا يعرفها أي شقيق عربي.
في توابل مائدة التباهي لا يفوت المتباهين، الحديث عن الحرب الأهلية، بصفتها حرب الآخرين على أرضنا، أو حربهم علينا، فنحن لم نخض حروباً ولا ارتكبنا من الفظاعات ما يندى له الجبين، فهذه ليست طباع اللبنانيين، ولا توحش القتل وهمجية الخطف على الهوية والقصف العشوائي، إلا أشياء طارئة لا بد أن يكون غير اللبنانيين وراءها، وكذلك التعامل مع العدو، له نظرية وفلسفة، الحشر في الزاوية، والتعامل مع الشيطان، والفساد والرشاوى وسرقة المال العام والدين المتراكم، تتداخل مع التباهي بعبقرية إنتاجنا للمخلوق العجيب المسمى سوليدير.
الشيء الوحيد الذي يحق لنا التمسك به من منتجات فوضانا السياسية وفيديراليتنا الطائفية البشعة غير المعلنة هو الحرية الإعلامية، التي تأسست على ضعف الدولة، وليست على تقاليد احترام الرأي الآخر، فأغلب من قتل في لبنان بأيد لبنانية قتل لأن له رأي آخر، وهذه الفوضى وتلك الحرية، على خلفية الدولة الضعيفة، مصدر الخلفية الثقافية لأنبل ظاهرة عربية معاصرة يمكن للبنانيين أن يتباهوا بها، بينما يتباهى بعضهم بالتنكيل بها، وهي المقاومة التي هزمت «إسرائيل» وأذلتها ووفرت للبنان للمرة الأولى صفة أن يكون أقوى دولة عربية تحسب «إسرائيل» ألف حساب قبل التورط بالحرب معها.
لا يتبقى إلا النظام السياسي، ونسخته المنقحة المحدثة، هي نظام الطائف الذي يحفظ نظرياً حقوق الأقليات، ولبنان مجموعة أقليات، لكن المقصود هنا هو المسيحيين، بعين غالبية تنتمي لبحر من المسلمين العرب، وطبعاً اليوم نقف عاجزين عن انتخاب رئيس للجمهورية بطريقة طبيعية وسلسة تحترم ما ندعيه كمنجز للطائف وهو احترام الشراكة الإسلامية مع المكون المسيحي، وها نحن نفشل للمرة الخامسة، فعام 1995 عدلنا الدستور لتمديد ولاية الرئيس الياس الهراوي، وعام 1998 عدلنا الدستور لننتخب العماد إميل لحود وعام 2004 عدلنا الدستور لتمديد ولاية الرئيس لحود، وعام 2008 عدلنا الدستور لانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً، وها نحن بلا رئيس اليوم، والرئاسة هي المنصب الذي يجسّد ما نتباهى به كأهمّ منجز لبناني في النظام السياسي، وسبب الفشل دائماً هو رفض ضمني من غالبية إسلامية تتصرف بعد الطائف بعقلية المنتصر، أن يكون لدينا رئيس للجمهورية يجسّد عملياً ما ندعيه نظرياً في الطائف من الشراكة الإسلامية المسيحية.
الوجه الثاني لإدعاءاتنا الديمقراطية هو أننا البلد العربي الوحيد الذي تجرى فيه منافسة سياسية عبر صناديق الاقتراع، ومهما حاولنا تجميل عملياتنا الانتخابية لن نستطيع الزعم أنه بقيت لدينا انتخابات، لا بضمان تنافس حزبي، ولا حياة حزبية لدينا بعدما احتلت الطوائف كل شي إلا الجزر النادرة التي تمكنت من الصمود، ولا بضمان تنافس لوائح، فنحن نختلف أربع سنوات على النظام الانتخابي لنسهل تمرير أسوأ الأنظمة بتواطؤ متبادل، آخر ربع ساعة، وعندما نستسيغ، لا مانع لدينا من التذرع بالخلاف لنمدد للمجلس النيابي مرة، وها نحن نستعد لنفعلها بمهارة مرة ثانية.
الطائف نظام فاشل، ودستورنا لم يحلّ مشكلة من مشاكل الحياة الدستورية، وأبسطها ماذا لو لم يتأمّن نصاب جلسة انتخاب الرئيس، هل نذهب حكماً لانتخاب من الشعب، طبعاً الغموض والفراغ بوعي كامل وليس غفلة أو سهواً، فقيمة دستورنا بالأحاجي التي صنعها وليس بالحلول التي صاغها، كي نتباهى بعبقرية المشترع؟