نقلات ذكية لأوباما على الشطرنج السوري… كيف سيردّ بوتين؟!
سومر صالح
بعقلانية سياسية أدرك الرئيس الأميركي باراك أوباما مع بداية ولايته الثانية أنّ القطبية الأحادية دخلت في مرحلة الأفول فعلياً، ولكن الرجل يحاول جاهداً على مضض أن يسجل اسمه ودوره في التاريخ السياسي باعتباره رعى قسراً انتقالاً دولياً إلى بنية دولية جديدة بأقلّ الخسائر الممكنة للولايات المتحدة، بما فيها تجنّب المواجهة المباشرة مع أقطاب دولية ناشئة، ولعلّ هاجس الخسائر ذاته حدا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تبني سياسات مكّنت أوباما من مهمته في تفادي المواجهة إلى حدّ الآن، وبدأ الرئيسان سوية وبالتناوب في ضبط حالات التفلت الإقليمي التي حدثت في فترة التحوّل تلك، ومع اقتراب نهاية الولاية الثانية للرئيس الأميركي بدأ في اتباع سياسة رسم حدود القوة والنفوذ في العالم، فبدأ بسياسة تطويق القوة الروسية استراتيجياً ابتداء في شرق أوروبا من رومانيا إلى دول البلطيق ومحاولة إجهاض القوة النووية الروسية، واستكمالاً بقرار إبقاء القوات الأميركية في أفغانستان لمواجهة تمدّد ونفوذ محتمل لروسيا في آسيا الوسطى، وصولاً إلى قرار العودة إلى «الشرق الأوسط» عسكرياً من بوابة حرب «داعش» في العراق…
هذا من الناحية العسكرية، ومن الناحية السياسية أعاد أوباما تجميع الناتو سياسياً في مواجهة روسيا وقبِل بانبعاث ألماني علّه يمكّن الناتو من المهمة، وبدأ بسياسة مشابهة في جنوب شرق آسيا، ولكن الشرق الأوسط بحالته السياسية والعسكرية المعقدة شكّل ما يمكن تسميته استعصاء واجه سياسة أوباما من ناحيتين: الناحية الأولى حالة التفلت الإقليمي التركي الخليجي على السياسة الأميركية، والثانية هي مركزية الأزمة السورية باعتبارها ميدان الاحتكاك المباشر مع روسيا والتي حسمت قراراها بتثبيت الوضع الدولي وفق المكاسب التي حققتها من القرم إلى شرق المتوسط، لذلك عمل أوباما على احتواء المفاعيل الدولية والإقليمية للدخول الروسي لسورية قبل البدء باحتواء المفاعيل الداخلية للحدث في ساحة الصراع، ولكنه فشل على الصعيد الإقليمي حيث أبدت السعودية وتركيا تمرّداً واضحاً على إدارة أوباما أضرّ وفاقم المأزق الأميركي في وضعية الولايات المتحدة الدولية، وفشل على المستوى الداخلي السوري في تحويل روسيا إلى طرف في الأزمة السورية والتي تحوّلت إلى ضامن لمنع تفاقم الصراع محلياً وإقليمياً.
في النتيجة اقتنعت الإدارة الأميركية بأنّ الوجود الروسي في سورية أصبح حقيقةً وواقعاً ستدافع عنه روسيا بكلّ ما تملك، واقتنعت أيضاً بأنّ إظهار القوة الأميركية في سورية سيحسّن صورة القوة الأميركية التي تضعضعت بفعل الانتشار العسكري الروسي خارج حدود الاتحاد، وهذا يتطلب أيضاً ضبط التفلت الإقليمي الحاصل، وبعد دراسة معمّقة لتلك النتائج، أطلقت إدارة أوباما استراتيجية من ثلاث مسارات متوازية سياسية وميدانية وإنسانية مقنّعة انطلاقاً من الأزمة السورية وميدانها لتحقيق هدفين أساسيين هما استكمال سياسة تطويق روسيا عسكرياً والانتقال إلى تطويق النفوذ وتقويضه، لأنّ تقويضه يحمل مؤشرات كبيرة على فشل الصعود الروسي كقطب والاكتفاء بإعادة ترتيب وضعية القوة الروسية فقط، والهدف الثاني هو الانتقال إلى وضعية رأس الحربة في الشرق الأوسط عسكرياً، لضمان بقاء السيطرة على الحلفاء وبهذا الأمر رسالة قوية لحلفاء الولايات المتحدة في العالم بجهوزية الولايات المتحدة لضمان أمن الحلفاء، ولكن هذه الأهداف الأميركية هي بالتوازي مع عدم الانجرار إلى مواجهة مع روسيا أو تصعيد حادٍّ لا يمكن تفادي نتائجه، وكان الاختيار على مدينة الرقة السورية لتدشين السياسة الأميركية الجديدة، ولكن لضمان نجاح رؤية أوباما كان لا بدّ من ضبط السياسة السعودية والتركية، فكان إقرار الكونغرس لقانون يدين السعودية في أحداث 11 أيلول والذي جمّده أوباما عمداً لإحكام القبضة على السعودية وضبط جموحها، والتهديد الكردي بفتح معركة منبج غرب الفرات ، والذي يدق ناقوس الخطر التركي لوصول «روج افا» إلى عفرين، وهذا يتطلب تنسيقاً تركياً مع الأميركي ذاته، فبدأت الولايات المتحدة بإرسال جنود ومستشارين للعمل على الأرض السورية لقيادة معركة الرقة وتدريب مقاتلين محليين تحت راية «قوات سورية الديمقراطية»، وبذات الوقت طلبت الإدارة الأميركية من القيادة الروسية تأجيل الضربات الأحادية الجانب على المناطق المتداخلة مع جبهة النصرة لاستكمال الفصل الميداني، باستثناء حركة «أحرار الشام» الإرهابية، ومن جهة أخرى طلبت تثبيت وقف الأعمال القتالية المكرّس بالقرار 2268، هذه الإجراءات الأميركية تهدف إلى إعادة ترتيب الأوراق في الأزمة السورية، ومن المعتقد أن تكون حرب الولايات المتحدة على «داعش» بذات التوقيت انطلاق حرب روسيا وحلفائها على «جبهة النصرة» وحلفائها بما فيهم حركة «أحرار الشام» الإرهابية، وتهدف الخطة الأميركية إلى الانتقال إلى وضعية ميدانية تمكنها من فرض شروط معينة على مسار الحلّ السياسي الذي تمّ تأجيله إلى ما بعد الجولة الميدانية الأميركية والروسية المتوقعة، فمن جهة ستعمل واشنطن على فرض «مجلس سورية الديمقراطية» كممثل مشارك مع وفد الرياض، الذي يمثل بدرجة كبيرة «جيش الإسلام» وحلفاءه، مما يضفي قوة ميدانية كبيرة لهذا الوفد في مواجهة الحكومة السورية الشرعية، لا سيما بعد معركة الرقة المتوقع حسمها سريعاً، بحيث يصبح الوفد المفاوض من المعارضة يمثل ثقلاً ميدانياً كبيراً ومتنوّعاً على الأرض السورية، وبذات الوقت تعمل الولايات المتحدة منذ مطلع العام الجاري على أفغنة الوجود الروسي في سورية، وهو ما يحققه تحالف بين «أحرار الشام وجبهة النصرة» الإرهابيتين، لا سيما أنّ الأولى قد تمّ تزويدها بصواريخ مضادّة للطائرات جرى استخدامها في ريفي حلب وحماة وأشارت معلومات متقاطعة عن استهداف طائرات سورية بهذه الصواريخ، مما يصعّب الوضع الميداني على روسيا والحكومة السورية في آن…
في الوقت ذاته تبقى الفصائل المسلحة الأخرى المحسوبة على واشنطن في وضعية استراحة محارب ضمن نظام الهدنة المطبق في سورية، هذه الوضعية ستنعكس على وضعية التفاوض السياسي في جنيف على كلّ الأطراف، ولضمان نجاح السياسية الأميركية، لا سيما تحسين الصورة الأميركية، بدأت الولايات المتحدة بإيجاد مبرّرات أخلاقية ذرائعية للتغطية على سياستها التصعيدية في سورية، فبدأت بإدانة تفجيرات طرطوس وجبلة الإرهابية والإشارة إلى تنظيم داعش الإرهابي، بالتوازي مع بدء التحضيرات لمعركة الرقة، وتفعيل المطالب بإيصال المساعدات الإنسانية للمحاصرين، ومن يسمع الوزير الأميركي جون كيري يعدّد أسماء القرى والبلدات السورية يخاله ناشطاً في مجال الإغاثة الدولية، وأمام انتصارات سهلة ونوعية متوقعة للولايات المتحدة على تنظيم «داعش» في الرقة ومحيطها، ستكون أولى نتائجه تعقيد الوضع العسكري في دير الزور، ومترافق مع محاولة أميركية لتقليص الفاعلية العسكرية الروسية في حرب «النصرة» القريبة عبر دعم الأخيرة بحركة «أحرار الشام» المزوّدة بتجهيزات عسكرية أميركية متطوّرة، تكون الولايات المتحدة قد دشنت معها مرحلة جديدة في الأزمة السورية عنوانها تواجد محدود لقوات أميركية في سورية، لتبقى كلّ الأمور رهناً بطبيعة الحرب الروسية على جبهة النصرة الإرهابية وحلفائها، وطبيعة الردّ الروسي على السياسة الأميركية، والتي تحتاج حكماً إلى سياسة مثلثة أيضاً سياسية وأخلاقية وميدانية، بدأت بدعوة روسية إلى انتخابات تحت إشراف دوليّ تجهض المحاولة الأميركية الاحتكام إلى الميدان في مفاوضات جنيف، وتتابعت مع استعدادات لاستخدام طائرات مقاتلة حديثة يمكن معها تفادي الصواريخ المحمولة على الكتف، مع فاعلية صاروخية مرتقبة في حرب «النصرة» الإرهابية، والمساهمة أيضاً في إدخال مساعدات إنسانية إلى مناطق حساسة ذي دلالة سياسية لتقويض المزاعم الأخلاقية الأميركية كمدينة دوما في ريف دمشق ودير الزور شرقاً…
في المحصلة شكل التدخل الرمزي العسكري الأميركي في الشرق السوري ميدانياً، متغيّراً مهماً في الحرب على سورية، له أبعاده وحساباته في الوضعية النهائية لناتج الأزمة السورية إقليمياً ودولياً، ولكن حدود تأثير هذا المتغيّر ستبقى رهناً بفاعلية ونتائج الحرب الروسية على «جبهة النصرة» وحلفائها، وبين هذا وذاك تمّ تعليق جنيف السوري إلى أن ينجلي غبار المعارك الروسية على «النصرة» والأميركية على «داعش»…
ولكن أخيراً يبقى سؤال مهمّ برسم أوباما بعد خططه تلك، ماذا لو ارتكب أردوغان حماقة في اعزاز؟! من يملك قدرة ضبط الوضع إقليمياً… بعد خيارات الاحتكام إلى الميدان؟