الكتاب بيت المعرفة والمكتبة ذاكرة المدينة ومفتاح المستقبل
كتب محمد ناصر المولهي: الكتاب والمكتبة دليل صريح على تطوّر حاجات الإنسان اللصيق بالتطور الإنساني، إذ واكبا تطور الحاجة البشرية، سواء المادية منها أو المعنوية، فبتنا اليوم نتحدث مثلاً عن كتب رقمية وتحميل كتب ومكتبات على الإنترنت وسوى ذلك.
لكن هاتين الحاجتين على أهميتهما ظلتا إلى اليوم ملتبستي المفهوم والقيمة لدى الشعوب العربية. لذا نطرح مفهوميهما وقيمتيهما في ظل عملية التطور، ونحاول وضعهما موضع تمحيص.
لنصطلح بدءاً على أمر نعرفه جميعنا، لكننا لم نفكر في مفهومه: الكتاب. في اللغة العربية الكتاب هو الأجل، وهو الرسالة. أيضاً هو الصحف المجموعة. هنا نلاحظ تعلق مفهوم الكتاب بالزمن ووظيفة التجميع. من هذا المصطلح نعبر إلى مصطلح آخر: المكتبة، التي يمكننا فهمها على أنها مكان تجميع الكتب وتخزينها إما للقراءة أو للبيع.
نلاحظ اشتراكاً هنا بين مفهومي الكتاب والمكتبة، فكلاهما يقوم بالتوثيق والجمع. أوراق تجمع مكتوباً، أياً يكن نوعه، وكتاب يجمع الأوراق، ومكتبة تجمع كتباً. بما أن الكتابة فعل تاريخي بامتياز، يهدف إلى الإفادة بالطبع، يمكننا أن نطلق على الكتب جماعة تواريخ، أو حافظة ذاكرة إنسانية. وبالتالي فإن المكتبة هي كذلك حافظة ذاكرة، في إنسانية يمثل لها التاريخ وجودها.
تصوّروا معي إنساناً خارج التاريخ، أو من دون تاريخ. ذلك مستحيل بالطبع. وهو يعي ذلك حتى من دون قصد. الإنسان مجبول على فعل التاريخ. نريد جميعاً تأريخاً لذواتنا الفعلية أو لإنسانيتنا عامة. نريد أن نقول ونثبت أننا هنا من خلال كتابتنا وحفظنا التاريخ وصنعه، ولا أقصد هنا التأريخ مثلما هو متعارف عليه، بل أستند إلى أن سائر أفعال الإنسان تاريخية، الفن والأدب والفلسفة والعلم. كلها صلب التاريخ ومساره، وليست خارجه بل هي منه.
المكتبة إذن حافظة ذاكرة في عالم من دون ذاكرة في الأصل. إنها مؤرخة الإنسانية والمعنى في عالم بلا معنى، شأنها في ذلك شأن المعالم التاريخية، أو النصب التذكارية. شأنها شأن جميع الدلائل والآثار التي تسردنا وتخبئ لنا ذاكرتنا وأفعالنا في جوفها، وتذكرنا بأننا هنا كي لا نزول في الضياع. لكن المكتبة تعدّ أكبر المعالم وأهمّها التي تحفظ ذاكرة الإنسان وترشده على الدوام إلى طريقه نحو المعنى.
إن شح القراء واضمحلال فعل القراءة تدريجياً ساهما في التردي الأدبي والعلمي الذي تعرفه معظم الدول العربية. لكن لا يذهبن الظن بكم إلى أن المكتبة مجرد معلم للماضي، بل هي فوق ذلك، إنها الناجية الوحيدة من الزمن، لا تعترف بماضيه أو حاضره أو مستقبله، بقدر ما تسعى إلى أن تكون ذاكرة مستمرة، ذاكرة يمكنها حتى التطلع إلى المعنى المقبل لا الماضي فحسب. فهي جماعة كتب أيّاً يكن نوعها، أدباً أو فكراً أو علماً، ترافق مسار الإنسان التاريخي، بل هي أرقى أفعاله حتى اليوم. اللغة مكتبة أصوات ومدلولات. الموسيقى مكتبة أصوات. الرياضيات مكتبة أرقام. استنادا إلى أن كل حافظ ومخزن للذاكرة يمكن الإفادة منه هو مكتبة، لكن لنتحدث عن مكتبة الكتب في هذا الحيز، المكتبة الذاكرة تلك التي نفيد منها لتكون النافذة المثلى نحو المعرفة، نحو الماضي والحاضر والمستقبل.
أولت المجتمعات إنشاء المكتبات اهتماماً كبيراً، ونعلم جميعاً المكتبات المشهورة مثل مكتبة الإسكندرية، ومكتبة الكونغرس، والمكتبة الوطنية الصينية. كما انتقل الولع بالمكتبات من العام إلى الخاص، لتكون لكل فرد مكتبته الخاصة في بيته.
تطوّرت المكتبة تاريخياً، لتنقسم المكتبات اليوم إلى عدة أنواع ، فهناك المكتبات الورقية التي تنقسم بدورها بين العامة، أي المشتركة، والخاصة أي الفردية. كما نجد المكتبات الرقمية المتنوعة على شبكة الإنترنت والمعدة للتحميل في ذاكرة جهاز أو قرص مضغوط. لكن الهدف واحد هو حفظ المعنى والتاريخ والذكرى والإفادة من الكتب. فما هي حال المكتبات اليوم لدى العرب؟
أشدّ ما يجعلني أبهت اليوم هو تحوّل المكتبات الخاصة والعامة في العالم العربي إلى مجرد ديكور مستند إلى جمالية الكتاب، أو إلى مفاخرة بالمعرفة. أقرّ بضرورة الاعتناء بالكتب وبجماليتها وتصفيفها وترتيبها وفق جمالية ما، وهذا مفهوم المكتبة شكلاً، لكن الهدف المحوري من الكتاب ليس القشرة والشكل فحسب، بل المضمون والإفادة منه، أو نتحوّل إلى مجرد جامعي علب أو ألبومات فارغة بغاية ترفنا الجمالي.
لكن أن تكون المكتبات بين ديكور وقبور من الورق على رفوف، ليس غريباً على مجتمعات لا تقرأ. فالنسب المتداولة صادمة حقاً، تبعث جزعاً مدوياً، فمن الأرقام مثلاً، نجد أن العربي يقرأ ست دقائق فحسب في السنة، مقارنة بالأوروبيين، الذين يعادل متوسط وقت قراءة الفرد لديهم الـ200 ساعة سنويا.
قد يعيد بعضهم ذلك إلى أسباب عديدة أهمها ترف المعيشة الغارقة في الاستهلاك في البلدان النفطية، والفقر والحاجة اللذين يضربان معظم الدول العربية الأخرى، أو عدم وجود ثقافة قراءة عندنا وانعدام أهميتها في التربية والتعليم، أو غلاء الكتب وعدم توافرها. أسباب متعددة لكن النتيجة ثقيلة جداً، وقيل في العرب «إنهم شعوب لا تقرأ وإن قرأت لا تفهم، وإن فهمت لا تطبق وإن طبقت لا تتوخى الحذر».
لنا أن ننظر إلى الحال العربية من الشمال إلى الجنوب، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، شعوب لا تتطلع إلى المعرفة أو المعنى، ولا تتطلع إلى تاريخها وحاضرها ومستقبلها. شعوب غير محظوظة، بناء على المثل الشركسي «يكفي المرء حظا أن يعرف تاريخ أمته». حقيقة تجعلنا هذا نقر بأن هناك أزمة وعي حادة لدى العرب، ويبدو هذا جليا من خلال مكتباتهم الخاصة منها والعامة. مكتبات عامة فحسب للمعرفة الانتقائية الشحيحة، ومكتبات خاصة للديكور والترف الجمالي السطحي.
إن شحّ القراء واضمحلال فعل القراءة تدريجياً ساهما في التردي الأدبي والفني والعلمي الذي تشهده معظم الدول العربية اليوم، ولكم أن تتثبتوا في ما ننتجه ثقافياً وعلمياً لتتبينوا العرج الذي ينخر المستوى الحضاري للعرب. فشعوب لا تقرأ هي بالضرورة شعوب لا تنتج.
ربما تكون مبادرة مثل إنشاء الاتحاد العربي للمكتبات والمعلومات الذي يسعى إلى خلق أشكال جديدة من الخدمات والمواد المكتبية مواكبة لتطور العصر، خطوة مهمة نحو التفكير جدياً في تطوير مكتباتنا العامة. لكن يبقى الإشكال قائماً، فهذه المبادرة لا يمكنها وحدها إلا أن تكون يتيمة معزولة أمام غياب القراء وانعدام الرغبة في القراءة.
ربما كان التعليم مفتاح إصلاح الأمة، لذا من الضروري غرس فعل القراءة في الفرد منذ الطفولة، والترغيب فيها بأساليب مبتكرة. وإن وجود مكتبة مهما يكن حجمها داخل كل بيت أمر ممكن، مع وجوب الإفادة من المكتبة، عامة كانت أو خاصة. يجب أن نعاملها ككاشف ضوئي يخرجنا من العتمة لا كقطعة أثاث جامدة. وحدها المكتبات يمكنها إصلاح الحال العربي العام والخاص، وحدها يمكنها محاربة الجهل والتطرّف.