المبادرة الفرنسية… تنازلات قبل البدء
راسم عبيدات
المتابع للتهافت العربي والفلسطيني على ما يسمّى بالمبادرة الفرنسية، والتي هي مجموعة أفكار ليس أكثر، يُعتقد بأنّها ستضع حداً للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة، في حين الأراضي العربية الأخرى مثل الجولان هناك ما هو مريب، ويطبخ ليربط مصيرها بنتائج الحرب العدوانية على سورية، وفي الحديث عن ما يسمّى بالمبادرة الفرنسية، نجد بأنّ من يدفع ثمن قبول أو موافقة «إسرائيل» على تلك المبادرة هو الشعب الفلسطيني من جيبه ومن حقوقه الوطنية المشروعة…
وقبل الغوص في جوهر ما هو مطروح من أفكار فرنسية لحلّ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، أو بالأحرى إعادة إطلاق المفاوضات بين السلطة الفلسطينية و»إسرائيل»، فالجميع يتذكّر منا جيداً عندما كانت السلطة الفلسطينية تنوي التقدم لمجلس الأمن الدولي في كانون الأول 2014 للاعتراف بدولة فلسطين دولة تحت الاحتلال، فعدا أنها فشلت في تأمين الأصوات التسعة من أجل التصويت على القرار، ففرنسا لعبت دور العراب في تفريغ المشروع الفلسطيني من جوهره، بحيث لم يعد فلسطينياً إلا من خلال الإسم، ومع ذلك رفضته أميركا.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فهناك بعض الحالمين ويعيشون الأوهام بأن يفضي مؤتمر أو لقاء باريس إلى تشكيل لجنة 5+1 على غرار اللجنة الدولية التي تشكلت للتفاوض مع إيران حول مشروعها النووي، معتقداً بأنّ لديه من أوراق القوة ما امتلكته إيران، فكلّ الظروف والأوضاع والمعطيات مختلفة تماماً، فإيران كان لديها الكثير من أوراق القوة، وكان لديها قيادة برأس واحد وإرادة سياسية وثبات على مواقفها، ناهيك عن امتلاكها لقوة الردع والقوة العسكرية.
ونأتي على تفصيل التراجعات الفرنسية عن مبادرتها أو أفكارها، والتي كلما أمعنت «إسرائيل» في رفضها، بدلاً من معاقبتها على ذلك، يتعزّز موقفها السياسي ويجري استرضائها «وتدليلها» وتُقدّم لها التنازلات ويجري الضغط على الطرف الضعيف الفلسطيني والعربي حتى يقدّم المزيد من التنازلات، والتي ستصل به للوقوف عارياً بدون ورقة توت.
بدأ مسلسل التنازلات هذا بإعلان وزير خارجية فرنسا تراجع بلاده عن شرط الاعتراف بدولة فلسطين في نهاية العملية السياسية كشرط أساسي للمبادرة، سواء تكلّلت هذه العملية بالنجاح أو الفشل، ثم جاءت مؤخراً زيارة رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس إلى «إسرائيل» التي قدّم فيها تصريحات صادمة، منها دعوة الدول العربية للاعتراف بـ»إسرائيل» من أجل ما أسماه دفع العملية السياسية في المنطقة»، وذهب أبعد من ذلك عندما قال بأنّه صديق شخصي لـ»إسرائيل»، وطلّب من العرب دفع استحقاق عقد المؤتمر مسبقاً وكأنهم هم المعتدون والرافضون لقرارات الشرعية الدولية، التطبيع قبل الحديث عن أيّ حلّ أو انسحاب إسرائيلي.
فالس أعلن في مقابلة خاصة مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية أنّ «على الدول العربية، وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية، الاعتراف بدولة «إسرائيل» بغيّة دفع عملية السلام في المنطقة»، مضيفاً «أنّ هذا الاعتراف سيشجع الإسرائيليين على المضيّ قدماً في عملية السلام». كما أعلن أنّ «أمن «إسرائيل» يُشكل الشغل الشاغل لفرنسا وشرطاً للتقدّم في عملية السلام»، وقال أنّه سيدعو الجانب الفلسطيني خلال المحادثات التي سيجريها في رام الله، إلى وقف العنف والتحريض على العنف، معتبراً أنّ المبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر السلام تهدف إلى منع تدهور الأوضاع وحدوث جولة أخرى من العنف والحرب بين «إسرائيل» والفلسطينيين. كما أعرّب عن معارضة بلاده بصورة مطلقة مقاطعة «إسرائيل»، معتبراً أنّ الدعوة إلى هذه المقاطعة تنطوي على «عداء للسامية».
في ظلّ الحالتين العربية والفلسطينية المجردتين من كلّ أوراق القوة، فإنّ مؤتمر باريس، لن يكون حالهُ بأفضلِ من حال مبادرةِ السلام العربية التي طُرحت في قمة بيروت 2002، وردّت عليها «إسرائيل» باجتياح الضفة الغربية ومحاصرة الرئيس الشهيد ياسر عرفات في المقاطعة برام الله، وقالت لهم مبادرتكم لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت ثقافة «الاستنعاج» مستدخلة عربياً، بحيث كان يجري ترحيل بل وركل المبادرة العربية من قمة عربية الى أخرى، مع الهبوط بسقفها من أجل أن تقبّل بها «إسرائيل»، ولكنها كانت تُمعن في رفضها وإذلال العرب، وإنّ جوهر ما يعنيها من تلك المبادرة هو التطبيع، كما هو حال مؤتمر باريس وأفكار فالس.
العرب والفلسطينيون دوماً سباقون لقبول المبادرات، تحت يافطة وذريعة ستر عجزهم وقصورهم أولاً، وثانياً حتى لا يتهموا بأنّهم غير «واقعيين» ويضيّعون الفرص، و»إسرائيل» في موقع الرفض الدائم، العرب يجري ممارسة المزيد من الضغوط عليهم، و»إسرائيل» تكافأ وتتعزز مكانتها السياسية، فـ»إسرائيل» رفضت المبادرة الفرنسية منذ اليوم الأول، وفرنسا تقوم منذ اليوم الأول بتقديم تنازل تلو الآخر لـ»إسرائيل» من أجل إقناعها بقبول المبادرة. وبدل مكافأة الطرف الفلسطيني، فإنّ فرنسا تقوم باسترضاء الطرف الإسرائيلي من جيب الطرف الفلسطيني».
رفض «إسرائيل» المبادرة الفرنسية تحدّ للإرادة الدولية، وبدلاً من معاقبة دولة الاحتلال لإجبارها على الاستجابة للإرادة الدولية ووقف سياساتها التي دمّرت حلّ الدولتين، لكن ما يجري هو العكس، يجري تعزيز مكانتها في العملية السياسية قبل إطلاقها، لذلك فإنّ فرنسا تحكم على هذه العملية بالفشل قبل أن تبدأ».
ونحن نرى بأنّ فرنسا بدلاً من الضغط على «إسرائيل» لتحقيق حلّ الدولتين عبّر مقاطعة الاحتلال ومنتجاته والاعتراف بالدولة الفلسطينية وبذل كافة الجهود لمواجهة الابتزاز الإسرائيلي ورفضه لعملية السلام»، نجد فرنسا تشجع «إسرائيل» على أن تكون فوق القانون الدولي، ولذلك يكفي العيش على الأوهام واللاهث وراء المبادرات التي تهدف إلى منع تدهور الأوضاع وحدوث جولة أخرى من العنف والحرب بين «إسرائيل» والفلسطينيين ، كما قال رئيس الوزراء الفرنسي فالس في لقائه مع نتنياهو.
ولذلك أرى بأنّ أيّة مبادرة تسوية سياسية أو وساطة تتضمّن حلّ الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين يطرّحها أيّ نظام عربي أو إسلامي في هذا الوقت بالذات، لن تكون إلا مبادرة هدفها حلّ إشكالات هذا النظام نفسه مع «إسرائيل» والغرب أو محاولة التقرّب منهما والتطبيع معهما مستغلاً القضية الفلسطينية كمدخل، وستكون مبادرة أو وساطة تساوم على الحقوق الفلسطينية وبسقف أقلّ من الحدّ الأدنى الفلسطيني بل وأقلّ مما تمنحه لنا الشرعية الدولية.
Quds.45 gmail.com