«على جناحِ الصمت»… تخلع مريم عباءة نبوءتها!

النمسا ـ طلال مرتضى

يا مريم… كلّ هذه القصائد لا تكفي، «ربما تشرق الشمس غداً» لنعزف سوياً «لحن الحياة»، نحتاج إلى الكثير كي نفكّ «سرّ الربيع البعيد»، «زهور اللوز» بدعة، «نصف الرغيف» وحده يروي «عطش الليل» المقيت.

غادري الآن من دون عودة «على جناح الصمت» وتلك «رحلة بلا تذكرة»، «نصل الرحيل».

مهماز موجعة سياطه… حين تجرّعتِ مرارة «النخب الأخير» كنتِ متيقنة بأن «لحظة اكتمال» الحقيقة تكمن في «روح المعنى»، وأنّ «سحر الموت» موارب النوايا. والسؤال: كم تتّسع «رحم الكلمة» من «رسائل الحمام»، هذه «لعنة الحبّ» نهايتها «دمع ورماد».

يا مريم… ارحلي «نحو الشمس». لا تقولي «تلكمُ نبوءتي»، لن يصدقوا أنّ «طفل الماء» هو عيسى. لست بريئة، هزّي ديوانك الموسوم ليساقط منه رطب القصائد، الكلّ يعرفون أنك ضاجعت مليك الشعر جهاراً، وخرجت منه حبلى بملايين الأفكار!

يا مريم… وحدي من يعرف أنك عذراء لم يمسّك حبر.

في منجز الشاعرة اللبنانية: مريم الترك «على جناح الصمت» الصادر عن مؤسسة عبد القادر الحسيني الثقافية/ مصر 2016. يتلمّس القارئ ومنذ العتبة الأولى ـ العنوان ـ «على جناح الصمت» تناصّه التوافقيّ مع ما تومئ إليه من المقولة الحقيقية، «على جناح السرعة»، وهي الجزرة التي ترمى له للوقوع في شرك استلابها، إذ إن المطبوع افتتح بمقدّمة منطادية ليس إلا، سيلتقطها القارئ العليم فور ولوج القصائد والإبحار في مفاتنها، وقد يتلفظ مستهجناً بأنها أتت حشواً لا رفداً لتطفو على سطح الديوان مثل فقاعة صابون.

لبرهة، قد يقع القارئ العاديّ مبوهتاً حين ينتهي إلى خلاصة حقيقية لا تنظيرية بأن القاموس اللغوي الذي تشكّل منه ديوان مريم الترك لم تتجاوز كلماته أكثر من خمسين كلمة. وهذا ما يشي أن الشاعرة فقيرة في مخزونها القرائي، ما لا يخوّلها لبناء قصائد أكثر انفتاحاً على عالم اللغة، وهذا شكّل لي هاجساً من نشوة التفاخر، عندما قلت: ألقيت عليك القبض يا مريم.

لكن السؤال: لماذا أكملت القراءة من ضفة الديوان الأولى إلى ضفته الأخرى، وكما يقولون إن المكتوب يُقرأ من عنوانه؟!

في العملية الحسابية، أنا محقّ تماماً. هي خمسون كلمة ونيّف، لكن جواب السؤال السالف: أنني كنت أعيش في كل نصّ حالة لم ألتمسها في النصّ السابق، معمار مختلف، تشكيل أقرب إلى التفرّد، سيل تراكميّ من الصوَر الإبداعية المغايرة، نصوص لا تستكين فائرة بكلّ دوالّها ومضمراتها وحواملها، واستعاراتها وإسقاطاتها. متماهية مع أناها تارة ومع الآخر في هالة تخيلية بدعية جديدة، وهذا ما يسقط ادّعائي الأول، وهو ما سأفضي به من خلال الشواهد، والتي تدلي بأن مريم شاعرة تستطيع ليّ زند اللغة لتتماشى مع معطاها كما تريد، حين تجرّ القصائد تباعاً نحو حتفها كما في القول:

تنهض النار

وتمشي رويداً رويداً

تحضن كلّ حيّ

تنزل إلى النهر عاريةً

كما ولدتها أمها

يحضنها الماء

فتبكي!

أقول بالمطلق إنها لم تكن تبكي، بل تنطفئ بسلطة الماء لتقوم قيامة قصيدة أخرى. وعلى رغم سوداوية الحالة النفسية والمنقسمة على أناها ـ عطش الليل. عويل الليل، طفلة الليل الغريب ـ التائهة في الأسئلة المبهمة:

يا قابيل

كم غراباً سوف يعلمك؟!

كم تراباً سوف يواري

سوءة العطش.

من يواري سوءة الشوق؟!

من يواري جثث من انتظروا وماتوا؟!

فالتّيه هنا لا يعني الانكسار، فإن جذوة الأمل ضلت تعسّ تحت رماد الوقت:

نمشي حفاة على

جمر الصحراء

ندفن جثث من سقطوا

نقتفي أثر الحمام.

هو الفقد المكظوم الذي لازم مريم، وأصبح يدين صمتها، وقد وصل إلى الحدّ الذي لا يحتمل، ليخرج إلى طور الصوت، حين اجترعت من لدنها ناياً لكل قصيدة، تفضفض من خلاله، عبر مونولوج يتماشى مع وجعها المكين:

سيرتبك الناي في يده

حين

يفتح رغبته للنشيد.

ولا الناي يزرعنا نغمة

في مروج الحياة.

وناياتنا لا تجيد الغناء…

وهنا، لا بدّ ومن باب الفضول أن يتمنبر القارئ المتعب ليسأل من أحدث كل هذا اليتم، أي معشوق يستحق كل ما تقدم، من هو الموسوم بتلك الكلمات التي نبتت عن سابق زرع في كل شطر من النصوص، الغبار، أليست دلالته السراب، الغريب، الغياب، ثم ماذا يعني تكرار كلمة «سنونوة» أليست هي رمز الرحيل؟!

ولِمَ لا وهي المتعنتة لآخر نفثة حبر، يقولها:

كيف أسمّيك وأنت خارج

الأسماء؟!

ومع كلّ هذا، بقيت أسيرة عشقه حدّ الانتحار:

حين ناداني المسدّس

حين أهداني الرصاصة

حين أعطيته جرحي

وصبحي

وجدول خوفي الأخير

كن حبيبي يا بلدي

حين أقول

أحبك

يا لبنان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى