أمن لبنان بين إفرازات الانتخابات ومتغيّرات الميدان السوري

العميد د. أمين محمد حطيط

ما إن انتهت الانتخابات البلدية في لبنان وتزامناً مع متغيّرات المنطقة والخطط التي تحضر للميدان فيها، حتى عاد البحث في الأمن اللبناني إلى الواجهة، عودة تبرّرها بشكل خاص إفرازات الانتخابات البلدية في شمال لبنان من جهة وما يتّصل بداعش ودوره في سورية من جهة أخرى.

أ ـ فعلى صعيد الانتخابات البلدية وربطاً بالعيش المشترك أو بالتوقع المذهبي والطائفي سجلت انتخابات بلدية طرابلس سقوطاً مريعاً لتكتل المال المحلي الذي يصف نفسه بصفة الاعتدال السني ودعاة العيش المشترك، في مقابل تقدّم التطرف الاستفزازي ونزعة رفض الآخر عملياً ومنح غطاء لكلّ من يعمل ضدّ محور المقاومة تحت أيّ عنوان مذهبي أو عنصري.

فقيام بلدية في ثاني مدينة في لبنان، والمسماة العاصمة الثانية، قيام بلدية فيها من غير وجود العلويين والمسيحيين والأقليات رغم أنّ مجموع هؤلاء في المدينة يتعدّى الـ 20 ليس بالأمر الصحي في بلد اعتمد نظام المحاصصة الطائفية نصاً وممارسة، وشكل أيضاً رسالة سلبية على صعيد العيش المشترك وقبول الآخر، خاصة أنه من طرابلس ذاتها هدّد بعض المتطرفين السنة منذ سنين قليلة بأنّ «المارد السني خرج من قمقمه» وأنه سيطيح بالآخر أياً يكن هذا الآخر، وجاءت نتائج انتخابات طرابلس لتؤكد هذا الاتجاه وتضعه موضع التنفيذ العملي.

ومع هذا قد يسأل سائل ما علاقة نتائج الانتخابات بالموضوع الأمني؟ وقد يبدو السؤال للوهلة الأولى محقاً وفي محله، لأنه يجب الخضوع للإرادة الشعبية والاحتكام لصناديق الاقتراع مهما كانت نتائجها، لكن الأمر هنا وفي انتخابات طرابلس ذاتها يتعدّى ذلك كلياً، حتى أنه ينفصل عنه بشكل قاطع.

فنتائج اللون الواحد، والمتشكلة في ظلّ شخص له باعه الطويل في التلاعب بالملفات القضائية وإيداع الأبرياء في السجون عندما كان مسؤولاً أمنياً، وفي ظلّ شخص نُسبت إليه ممارسات شتى في إضرام نار 21 جولة طائفية من المعارك بين باب التبانة خاصة وطرابلس عامة من جهة وجبل محسن العلوي من جهة أخرى، حروب بذريعة «أنّ سكان طرابلس لن يلبسوا التنانير» بل سيقاتلون دفاعاً عن كرامتهم، من دون أن يكون أحد يهدّد هذه الكرامة أو يهدّد تلك السلامة والأمن في المدينة، بل كانت معارك للتغطية على نقل السلاح للإرهابيين في سورية عبر ميناء المدينة. إنّ نتائج هذه ظروفها تكون مدعاة للقلق لجهة اتخاذ طرابلس «حصناً» يتحصّن فيه من شاء متابعة ما كان قائماً فيها من جولات أولاً، ثم من أراد أن يلاقي متغيّرات الميدان السوري ثانياً، ولهذا رأينا من اللحظة الأولى أن ما أفرزته صناديق اقتراع طرابلس يشكل رسالة سلبية على صعيد الأمن اللبناني.

ب ـ أما على الصعيد الأمني المباشر، وفي ظلّ الضغوط التي يتعرّض لها داعش في سورية مع ما تشيعه أميركا من خطة لطرد داعش من الرقة وتسليمها للأكراد في سورية، فإننا نرى أنّ داعش الذي يتجنّب في مواجهاته المعركة الحاسمة والموت الجماعي، ويعمل باستراتيجية القتال ما أمكن والانتقال إلى ميدان آخر إذا تيسّر، فإنّ داعش الذي هذه استراتيجيته، لن يتمسّك بالرقة حتى الرمق الأخير، ولن يتجه إلى إفناء كلّ مقاتليه فيها، نعم نحن لا نستبعد أن يتمسّك داعش بمدينة الرقة إلى آخر ساعة يمكنه البقاء فيها، لكنها إذا أيقن بأنّ معركته خاسرة فإنه سينتقل إلى حيث يجد قدرة على مواصلة أعماله الإرهابية دون أن يتكبّد خسائر لا مردود لها في الرقة، ولنتذكّر كيف تبخّر داعش في الرمادي في العراق واختفى 1500 داعشي من المدينة في أقلّ من 48 ساعة. ولا نستبعد تكرار الأمر ذاته في الرقة، هذا إذا أيقنت أنّ أميركا جادّة في إخراجه منها.

وهنا ومع هذه الفرضية يكون سؤال آخر عن وجهة داعش بعد الرقة؟ ونسارع في الإجابة لتحديد وجهات ثلاث محتملة قد يرى فيها داعش مخرجاً له من مأزق الرقة:

1 ـ الأول جنوباً أيّ باتجاه دير الزور، ولهذا يعمل داعش اليوم وبهجمات متلاحقة لإخراج الحامية العسكرية السورية الممسكة بجزء من المدينة ومطارها.

2 ـ الثاني باتجاه الشمال الغربي، ولهذا بدأ داعش بعملية واسعة في ريف حلب الشمالي لوضع اليد على مارع واعزاز والسيطرة على كامل المنطقة بين حلب والحدود مع تركيا لتحقيق أهداف شتى، منها ما يتعلق بالضغوط على الرقة، ومنها ما يتصل بمعركة حلب المستقبلية ومنها ما يتصل بمسار الحرب على سورية ومستقبلها بشكل عام.

3 ـ أما الاتجاه الثالث فهو ولا شك لبنان، وهنا تأتي أهمية ما جرى في طرابلس وأهمية الرسالة السلبية التي وجّهتها المدينة على هذا الصعيد.

نقول هذا دون أن نغفل حقيقة وجود الخلايا النائمة في المدينة وفي الشمال عامة، وما حصل منذ أسبوعين من تفجيرات في طرطوس وجبلة السوريتين، ودون أن ننسى أنّ داعش كان ولا زال يضع لبنان في خريطة دولته المزعومة، وأنه يتابع تحضيراته للدخول إلى لبنان عبر بوابة عرسال وجرودها، حيث لداعش مجموعات تتنامى في المنطقة بشكل مضطرد، وأنه يطمح للسيطرة على المنطقة شمال خط عرسال طرابلس ليتخذ من الأخيرة ميناء لها على البحر. كلّ هذا معطوفاً على ما تقدّم من عرض وقراءة للانتخابات في طرابلس يقودنا إلى الحذر والقلق والقول بأنّ هناك تهديداً جدياً للأمن اللبناني.

ومع هذا التهديد الذي اقتصرنا هنا على ذكر عنصرين من مكوناته، ودون أن نُسقط عناصر التهديد الأخرى الموضوعة في البرادات، ولكنها تبقى جاهزة لتكون في الميدان عندما تتغيّر الظروف مع هذا التهديد نطرح السؤال عن قدرات لبنان لمواجهة التهديد ودفع الخطر؟

هنا نسارع للقول بأنّ لبنان حتى اللحظة وبما لديه من قوة عسكرية أمنية توفرها له مؤسساته الرسمية من جيش وقوى أمنية، معطوفة على ما توفره المقاومة من إمكانات واحتراف في مواجهة الإرهاب، إنّ لبنان حتى اللحظة قادر على السيطرة وإبقاء أزمة الأمور الأمنية بيده، ولكن هذا لا يعني الاسترخاء والركون إلى هذا الأمر مع وجود إرهاب يملك القدرات الهامة والمتفلّت من أيّ قاعدة من قواعد الأخلاق والشرع والقانون. أيّ بكلمة أخيرة نقول إنّ أمن لبنان مهدّد، ولكن لبنان قادر حتى اللحظة على دفع الخطر، إنما ينبغي الاستعداد أكثر والحذر أكثر، والمبادرة وبأي شكل من الأشكال إلى تدابير علاجية وتدابير استباقية يساهم فيها المسؤولون على المستويين السياسي والأمني ــــ العسكري كلّ في مجاله للمحافظة على لبنان مستقراً والحؤول دون التحاقه بالحريق العربي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى