توفيق مهنّا يهدينا كتاب اللحظة الراهنة
جورج كعدي
ردُّ جميع أزمات الأمّة ومآسيها المتلاحقة إلى وجود الكيان الصهيونيّ المسخ على أرض فلسطين لا ينطوي على أدنى مبالغة. حروب ومجازر ومؤامرات متتالية ضدّ الأمّة جمعاء، فضلاً عن ظاهرات التطرّف والإرهاب الدينيّين، موضوع الساعة، ومشاريع التفتيت المستمرّة وتقسيم المقسّم، لأجل مصلحة «إسرائيل» ودول الاستعمار الغربية وفي مقدّمها الولايات المتحدة وذنباها الأوروبيّان فرنسا وبريطانيا، الدولتان «العريقتان» في الاستعمار المجرم والوحشيّ تاريخيّاً. بالتالي، لا جدال في أن وجود «إسرائيل» كغدّة سرطانيّة في جسد الأمّة المريض اليوم والمحتاج إلى عناية فائقة كي يُنقذ من الموت والزوال، هو المبتدأ والمنتهى، ولا قضية تتقدّم عليه أو تفوقه أهميّة في تحديد المصير، وهو موضوع الساعة وكلّ ساعة منذ عام 1948، بل منذ «وعد بلفور» المشؤوم والكارثيّ، فالمصائب كلّها والمآسي كلّها آخرها مآساة غزّة المؤلمة والرهيبة منبعها واحد ومرجعيّتها واحدة ولا نبحثنّ خارجهما، إلاّ اللّهم في ضعف مناعتنا الداخليّة نتيجة التشرذم وانعدام الوحدة والقوة والاستراتيجيّة الواحدة للأمّة، أيّ كلّ ما حذّر منه أنطون سعاده ونبّه إليه.
يهدينا الأستاذ توفيق مهنّا، نائب رئيس الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، مؤلّفه البحثيّ القيّم «أنطون سعاده والصهيونيّة… قراءة في الخطّة الصهيونيّة والخطّة القوميّة المعاكسة» دار الفرات، بيروت، تموز 2014 ، محيطاً خير إحاطة بهذا الموضوع الراهن بامتياز، استناداً إلى الرؤيا الفذّة، العبقريّة والمدهشة، التي اشتهر بها سيّد النهضة القوميّة، الذي رأى ببصيرته الاستثنائيّة الخطر القادم على الأمّة، في شقّيه، الصهيونيّ «الإسرائيليّ» والوهّابي السعوديّ، منذ العشرينات من القرن الفائت، أي منذ ما قبل نشوء الكيان الصهيونيّ بعقود، وما قبل تفشّي ما نسمّيه اليوم بـ«ظاهرة الإرهاب»، وهو ذو منبع وهّابي سعوديّ واحد.
رؤيويّة سعاده التي تؤكّدها الوقائع التاريخيّة يلفت إليها الأستاذ صقر أبو فخر في مقدمته القيّمة للكتاب قائلاً: «مَن يقرأ مقالات أنطون سعاده في المسألة الفلسطينيّة، ويتتبّع آراءه في الصهيونيّة واليهوديّة وإعلان بلفور وقرار التقسيم وقيام «إسرائيل» يكتشف أنّ هذه الآراء تصدر عن صاحب رؤيا، وعن باحث رؤيويّ متمكّن من أدواته المنهجيّة والمعرفيّة، لا عن رجل سياسيّ ربما تقود أهواؤه السياسيّة ومصالحه المتقلّبة إلى هذا الموقف اليوم، وإلى ذاك الموقف المعاكس غداً. إننا، بالفعل، أمام رؤية استراتيجيّة ثوريّة ومستقبليّة برهنت الأيام صحة تحذيراته وتوقّعاته. والكتاب الذي بين أيدينا اليوم يعيد النضارة إلى نصوص أنطون سعاده، بل يعيد إليها مكانتها الرفيعة التي ربما لم تكتشفها الأجيال الجديدة من شبّان هذه الأمّة. وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنّه أعاد وصل موقف سعاده من الخطر الصهيونيّ المحدق بفلسطين ومحيطها القوميّ آنذاك، بموقفه التأسيسيّ من خطر الاستعمار، وكثيراً ما شدّد على أنّ إنقاذ فلسطين أي تحريرها بلغة أيّامنا الحالية إنّما هو نقطة تحوّل جوهريّة في حياة النطاق القوميّ لفلسطين، أي من دون وحدة هذا النطاق، فسيكون تحرير فلسطين من المحال، أو في أفضل الحالات متعذّراً. إذا كان سعاده وجد في الاستعمار خطراً رديفاً للخطر الصهيونيّ، إلاّ أنّه رأى، في الوقت نفسه، أنّ «التفسّخ الروحيّ للأمّة السوريّة» وتردّي أحوال السوريّين إنّما هو خطر أساسيّ على مستقبل فلسطين، لأنّ من شأن هذا التفسّخ أن يمنح «إسرائيل» أمناً وطيداً، فهذه «الدولة الجديدة إسرائيل نشأت في الجنوب بفضل تفسّخ مجتمعنا النفسيّ، وبفضل المنازعة بين حكوماتنا السوريّة وانقسامنا بعضنا مع بعض … ».
منهجيّة مهنّا البحثية قائمة على توازن بين خطّتين متواجهتين، فالهدف من الكتاب ليس تصوير الخطر الصهيونيّ فحسب، بل عرض الخطة القوميّة المعاكسة التي وضعها سعاده لدرء هذا الخطر المهدّد لراهن الأمة ومستقبلها، وتتبدّى لنا مفاصل البحث من خلال عناوين الفصول: كيف قرأ سعاده الخطة الصهيونيّة؟ قواعد الخطة المعاكسة للخطة الصهيونيّة، مفاصل السلم «الإسرائيلي» وأخطاره، سعاده والشرعية الدولية. ويدعم مهنّا بحثه بإعادة نشر بعض الوثائق التاريخيّة، وبعضها سرّي، علّ التذكير ينفع، وأولاها وثيقة سريّة حول المعاهدة بين الوكالة اليهوديّة لفلسطين والكنيسة المارونيّة، ومن الوثائق «الإسرائيليّة»: دولة درزيّة عازلة بين سورية و«إسرائيل»، فضلاً عن وثائق وتوصيات المؤتمر السوري العام 1920 والملحق 1.
منذ مطالع بحثه يسعى توفيق مهنّا إلى تمييز سعاده عن مفكرين نهضويين معاصرين له، ملاحظاً أن تلك النخب لم تأخذ على عاتقها تأسيس حركة سياسيّة ونضاليّة تتصدّى عمليّاً للنشاط الصهيونيّ المنظّم والمؤطّر في مؤسّسات وفروع تعمل بهدف واحد هو تحقيق حلم مملكة صهيون في فلسطين أرض الميعاد المزعومة، لذا بقيت جهود هؤلاء ضمن كتابات أو مقالات أو كتب. لذلك فإن سعاده، بحسب المؤلّف والباحث، لم يتنبّه للخطر الصهيونيّ فحسب، بل لما ينبغي أن يمنع الخطر، فأسّس لحركة سياسية تحرّرية، نضاليّة، قوميّة، للنهوض بالأمّة من حالة التشتّت والضياع.
أمّا الخطة النظاميّة المعاكسة التي وضع سعاده قواعدها ضمن العقيدة والفكر القوميّين فيضعها مهنّا تحت خمسة عناوين فرعية هي: 1 – الوعي القوميّ، 2 – الوحدة القوميّة بديل من التجزئة السرّية، 3 – وحدة المجتمع بديل من التجزئة الاجتماعيّة، 4 – النظام الاقتصاديّ القوميّ في مواجهة الاستعباد الداخليّ حليف الاستعباد الخارجيّ، 5 – القوّة هي القول الفصل… وكلٌّ من هذه النقاط تنطوي على شرح وتفصيل استناداً إلى أقوال الزعيم في كل جانب وقضيّة. فبالنسبة إلى سعاده، الصراع هو بين مشروعين: «إسرائيل الكبرى» وسورية الطبيعية أو التاريخيّة أو الهلال الخصيب. وإذا كانت خطة الحركة الصهيونيّة تسعى إلى بناء «الإمبراطوريّة» بحدودها التوراتيّة المزعومة، فإن سعاده ينطلق من خطة نظاميّة معاكسة يفصّلها الكتاب لبناء دولة الأمّة السوريّة الواحدة لتحقيق حقيقتنا الإنسانيّة ومصالح نهوضنا وتقدّمنا إزاء دورنا التاريخيّ الحضاريّ.
كتاب شائق، غنيّ بالمعلومات التاريخيّة والمراجع، يعالج المسألة الكبرى المعقّدة والأشدّ خطراً على مصير الأمّة من نواحيها كافة، استناداً إلى رؤية أنطون سعاده ورؤياه، حتى أنّ قارئ الكتاب البحثيّ الجامع القيّم تساوره رغبة أكيدة في قراءته دفعة واحدة لغناه ومنهجيّته الدقيقة وسلاسته وفائدته.