المعركة العسكرية والسياسية وجهان لانتصار واحد
رامز مصطفى
الحرب المجرمة التي يشنّها العدو الصهيوني منذ أكثر من شهر على غزة، أثبتت فيها المقاومة الفلسطينية قدرتها على منع ترميم هيبة الردع لآلة الجبروت الصهيوني، بل كسرتها من خلال تطوير أدائها وقدراتها العسكرية.
هذا ما اعترف به أبرز قادة الكيان والمحللين العسكريين في كبريات الصحف العبرية، حين اعترفوا بأنّ المقاومة الفلسطينية قد ضاعفت قدراتها القتالية والعسكرية 20 مرة عما كانت عليه في عامي 2008 2099. فأدخلت المقاومة في معركتها أسلحة جديدة، وفي مقدمها الصواريخ المتطورة في مدياتها وقدرتها التدميرية، والأنفاق التي مكّنت المقاومين من الوصول والنزول خلف خطوط العدو، والطائرات المسيّرة من دون طيار، والالتحام والاشتباك المباشر، أربكت القيادة العسكرية الصهيونية. وأثمرت عن أسر جنديّين صهيونيّين، ووقوع المئات منهم بين قتيل وجريح، وفوق كلّ ذلك الفشل الاستخباراتي الذريع للأجهزة الأمنية في الكيان الصهيوني، وإغلاق المجال الجوي أمام الملاحة الجوية، وللمرة الأولى منذ زرع الكيان على أرض فلسطين بسبب سقوط الصواريخ التي غطت شعاع فلسطين المحتلة بمدنها ومناطقها، وإجبار ما يزيد على خمسة ملايين مستوطن صهيوني على البقاء في الملاجئ، مع شلل في المرافق السياحية والاقتصادية، وانهيار شبه تام للجبهة الداخلية في الكيان، فقد اعترفت الصحافة العبرية أنّ الحالة النفسية للمستوطنين وصلت إلى مستويات متدنية يصعب معها التكهّن مستقبلاً إلى أيّ اتجاه ستسير، بمعنى أنّ ذلك من شأنه دفع المستوطنين إلى الهجرة المعاكسة.
وفوق كلّ ذلك سيل الاتهامات التي بدأت تتصدّر صحف الكيان، والمقابلات التلفزيونية، والمقالات وتصريحات كبار القادة الصهاينة، في تحميل مسؤوليات الفشل والإخفاق والهزيمة للجيش الذي لا يُقهر، والذي فقد ومن دون رجعة قدرته على استعادة قوة الردع في مواجهة المقاومة. هذا الصمود الأسطوري ما كان له أن يتحقق لولا الشعب الفلسطيني المتشبّث بأرضه والصامد عليها، والذي كان السلاح الأمضى في معارك المقاومة التي خاضتها ولا تزال في مواجهة آلة القتل والإجرام الصهيوني، والذي لعب من خلال ارتكابه أفظع المجازر بحق شعبنا، أن يفك شراكة الدم والصمود والمواجهة بين المقاومة وبيئتها الحاضنة، وفشل في تحقيقه.
المعركة العسكرية على صعوبتها وقسوتها وضراوتها، تبدو أمام المعركة السياسية هي الأسهل. لذلك المواجهة والمعركة السياسية التي يخوضها الوفد الفلسطيني في القاهرة شاقة وصعبة، على اعتبار أنّ هناك في الواقع الدولي والإقليمي من يعمل على منح الكيان نصراً سياسياً وهو المهزوم في الميدان، وهذا الواقع الدولي والإقليمي ذاته هو المتورّط منذ أعوام في ما تشهده المنطقة بدولها من أحداث وحروب بهدف تقسيم المنطقة على أساس طائفي ومذهبي وعرقي، لمصلحة الكيان الصهيوني وعلى حساب القضية الفلسطينية وعناوينها.
لذلك ما تشهده القاهرة معركة سياسية سيترتب على نتائجها الكثير. وحتى اللحظة الكيان يمارس الابتزاز بهدف إجهاض شروط ومطالب المقاومة والشعب الفلسطيني المحقة. ومن المبكر الحديث عن انفراجات على رغم التهدئة الأولى والثانية أو الثالثة الخ… طالما أنّ حكومة نتنياهو لم تستجب لشروط المقاومة، وبالتالي يعمل نتنياهو جاهداً من أجل أخذ الوفد الفلسطيني إلى سياق خارج الموضوع الرئيسي، كحديثه عن الإفراج عن الأسيرين في مقابل الأسرى الذين أفرج عنهم في عملية شاليط، أو محاولته خلق شرخ داخل الوفد الفلسطيني من خلال مغازلته السلطة والإكثار في الحديث عن دورها المستقبلي، أو محاولته ربط إعمار غزة بموضوع سلاح المقاومة عبر رقابة دولية تشرف على عملية ضبطه، أو إيجاد منطقة عازلة في مناطق غلاف غزة، أو الإشراف على عملية تدمير الأنفاق. لكن السياق لا يزال على حاله، «الإسرائيلي» لا يريد الإقرار بهذه الشروط وهو يمارس المماطلة والتسويف والابتزاز. والوصول إلى تهدئة طويلة أو «مستدامة حسب التعبير الأميركي».
برأيي ليس الأمر بهذه السهولة ما دام العدو لا يُقرّ بشروط المقاومة، ونحن أمام تجربة مريرة ومخجلة عمرها عشرون عاماً، منظمة التحرير وقعت اتفاقات أوسلو عام 1993 وحتى الآن لا يزال قادة الكيان يمارسون التسويف والمماطلة والكذب على المفاوضين الفلسطينيّين، وما صرّح به ليبرمان «أنّ القبول بالمبادرة العربية، أفضل من الاتفاق مع الفلسطينيّين» وهو كاذب ومحاولة بائسة لدغدغة بعضهم ليس إلاّ. وفي المقلب الآخر يذهبون حثيثاً، أيّ «الإسرائيليين»، نحو فرض وقائع ميدانية في التهويد والاستيطان الخ… وهذا ما أقرّ به الدكتور صائب عريقات على قناة «الميادين».
إذاً، نحن أمام اختبار حقيقي في التمسّك بهذه الشروط، وعدم السماح في التفريط بتضحيات ودماء شعبنا، وبالتالي بهذا الانتصار الذي أقرّ به الكيان نفسه، وتصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما الأخيرة حول الحرب والقول إنّ «الإسرائيليين» نجحوا في الحرب على المقاومة، وإنّ شعبية نتنياهو قد ازدادت على خلفية الحرب، هذا في حدّ ذاته تشجيع لحكومة نتنياهو على رفضها الإقرار بشروط المقاومة وفي مقدمها رفع الحصار النهائي عن القطاع، وإعادة الإعمار. لذلك نحن أمام أيام مفصلية في سياق الحرب العدوانية على القطاع. وعلى تماسك ووحدة الموقف الذي جسّده الوفد الفلسطيني، وعدم الرضوخ للضغوط، ومحاولات استدراج أحد مكوّنات الوفد عبر بعض المغريات. وأرى حتى الآن أنّ الوفد الفلسطيني متماسك، ويتعامل بحزم. والشيء بالشيء يُذكر، كنا نتمنى أن يتبدّى هذا التماسك وهذه الصلابة خلال المفاوضات بين السلطة والكيان، وإنْ كنا نرفضها ولا نسلّم بها لا في الشكل ولا في المضمون. وإذا ما اقتضى الاستمرار في المواجهة على رغم التضحيات الجسام فليس من خيار آخر أمام المقاومة والشعب الفلسطيني، وفي هذه الحالة لا قدرة لدى العدو على تحمّل حرب استنزاف طويلة.