بم نبدأ؟… معالم خطّة وطنيّة لمواجهة الأخطار المحتملة
عبدالفتاح نعوم – المغرب
جميع المقاتلين المغاربة في بؤر التوتر مآلهم إلى المغرب. ذلك مشروط بنجاتهم فحسب، وبحدوث اتفاق دولي على مجابهة وجودهم في العراق وسورية ولبنان. فالواضح أن أمن السعودية وتركيا بات على المحك، ناهيك عن أمن أوروبا. وكلما مضى وقت أكثر في انتظار إنجاز تفاهمات دولية وإقليمية على الملفات الجيواستراتيجية العالقة، تمدّد الخطر متجاوزاً الخطوط الحمراء. فالإرهاب أداة خطيرة في الضغط قد تؤذي مستعملها إذا لم يحمِ نفسه منها!
القوى العظمى والإقليمية باتت تعرف ذلك جيداً، وجميع المؤشرات تدلّ على أن حرباً دولية وإقليمية على الإرهاب ستقع لا محالة. وبالتالي، لنفترض أن نصيب المغرب من العائدين هو بين 500 و1000 مقاتل، وبين هؤلاء من يحمل جنسية مزدوجة. إنما بات واضحاً أن دول أوروبا تجرّد أمثال هؤلاء من جنسياتهم الأوروبية، وبالتالي إذا نجوا من الموت سيكون الموئل هو المغرب.
لكن التساؤل المطروح هو: هل يعمل المغرب على صوغ خطة وطنية لمجابهة تلك التهديدات؟ وهل يمكن تلمس أيّ معالم في ما يروّج من مخارج الآن؟
كان خطاب العرش مؤيداً لمضمون تصريحات وزير الداخلية حول تهديدات «داعش»، وارتكز على نقطتين جوهريتين: 1- الحديث عن المنجزات التنموية باعتبارها مدخلاً لقطع الطريق أمام الفكر المتطرف. 2- الاعتراف بأن التهديدات أمر قائم، فالاعتراف بالمشكلة هي البداية لحله. إلاّ أن حديث الملك عن الثروة إلى جانب حديثه عن الإرهاب في خطاب واحد يعكس درجة القناعة التي ترسخت لدى بنية الحكم في المغرب بالتهديدات التي تطول مصالحها الحيوية، وهي تهديدات تطول المجتمع أيضاً، والمصلحة هي شبكة العلاقات المعقدة التي تدفع الدولة إلى تأمين أفرادها.
لكن تلك الإشارة غير كافية. كان مفترضاً أن يتناول الإعلان الملكي المشكلة باللهجة التي طبعت خطاب العرش لسنة 2003، إذ كانت حوادث 16 أيار في الدار البيضاء الدافع لأن يقرر الملك أن «الشعب المغربي القوي بوحدته المذهبية الدينية، وبأصالته الحضارية، ليس في حاجة إلى استيراد مذاهب دينية أجنبية عن تقاليده». فلا بد اليوم من إعادة ذلك الربط بين مختلف المستويات ذات التأثير في الظاهرة، والتي تشكل البيئة الفكرية/ الاجتماعية الحاضنة عمودها الفقري.
بين سائر تيارات الإسلام الحركي، الوهابية هي الأكثر قابلية بخطابها ومشروعها- للتماهي مع الفكر الديني المتطرف. وكان المغرب مجبراً على التغاضي عن أنشطتها في السابق لثلاثة أسباب رئيسية: 1- كبح جماح جماعة العدل والإحسان، 2- العلاقات المميزة بين المغرب والسعودية، خصوصاً أن النظامين معاً يستمدّان شرعيتيهما من مقولات ذات صلة بالدين، 3- الوهابية تنتهج طاعة ولي الأمر، وتنتهج التقية في شأن مواقفها من العقيدة الأشعرية التي تقضي بأنها عقيدة فاسدة، ما يفسر توجه دور القرآن في المغرب قبل حوادث 16 أيار نحو الهجوم الشرس على التصوف باعتباره بدعاً منكرة، وكان هجوماً على أدبيات التصوف التي تستمدّ منها «العدل والإحسان» برنامجها.
أما بعد ذلك فقد وجد المغرب نفسه مرغماً على إعادة هيكلة الحقل الديني وتحصينه من الاختراقات الفكرية المختلفة، إذ اكتشف أن الوهابية وفرت البيئة لنمو الفكر المتطرف، وبات سهلاً لأي تاجر متجول في الدار البيضاء يعتقد أن المجتمع ضال أن يعتقد أيضاً أن الحاكم كافر قياساً بكفر الليبرالي واليساري. هذا التوجه نادت به الكثير من العقول الإستراتيجية بعد حوادث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة، عبر الربط بين الإرهاب ومنابعه الفكرية التكفيرية، لكن ذلك لم يجد آذان أصحاب مشروع القرن الأميركي الجديد في موقع المستمع. لذا، لا بد للمغرب من بلورة تصور جريء وقائي، فلا يمكن تصور حجم الخسائر التي يمكن أن تنجم عن أي حدث يمس الأمن بالمغرب.
حينما كانت الآمال معقودة على تدعيم حراك الشعوب لأجل الإصلاح والديمقراطية، كانت القوى العظمى والقوى الإقليمية تنفذ على نحو مدروس صفقاتها مع حركة «الإخوان المسلمين» لتدعيمها مالياً وإعلامياً للوصول إلى السلطة. وفر خطاب «الإخوان المسلمين» الذي بات طاغياً بيئة لاستنبات مختلف الخطب الأخرى المتطرفة. ذاك كلّه كان يحدث على مرأى ومسمع من القوى الكبرى. لعلّ استثارة المشاعر الطائفية والعرقية توفر الأرضية الملائمة لإمرار مشروع التقسيم. وإذا كانت القوى العظمى تربح من ذلك، فإن القوى الإقليمية في الخليج تطيل عمرها بذلك أيضاً. لكنّ عدداً كبيراً من الدول ضُغط عليها كي تنخرط في هذا المشروع، وكان المغرب ويا للأسف بينها.
لكن الوقت الراهن ليس مناسباً للعتاب، إنما لمداواة الجروح. فالأكيد أن تداعيات فشل المشروع تحظى باهتمام بالغ لدى الأجهزة الأمنية في المغرب، فهي تداعيات على الأمن في المقام الأول. على رغم أن لا معلومات حول التدابير التي يهيّئها المغرب في هذا الصدد.
وقف غسان سلامة في فترة الحرب الأهلية اللبنانية على التناقض الصارخ الذي تعيشه حالة الدولة في العالم العربي، ففي حين كان يشكو المواطن العراقي تسلطها، كان المواطن اللبناني يتمنى ربع تسلطها. ففي اللحظات المفصلية يشعر الناس بضرورة الدولة، ولذلك فإن المغاربة سيكونون جاهزين لتقبل تدابير الدولة لأجل الوقاية من أي تهديد لأمنهم. على دوائر صنع القرار أن تعلن فحسب، بجرأة تامة، خطة ذات مستويين:
على المستوى الوطني: ينبغي وضع خطة وطنية عبر التأسيس للجنة عليا مشتركة بين وزارات الداخلية والاتصال والأوقاف، بحيث يكون محور خطة الداخلية انتهاج سياسة أمنية مدروسة جوهرها «صفر تسامح». وخطة الاتصال إطلاق حملة إعلامية مدروسة للتعريف بالأخطار، محورها منح الفرصة للقوى الوطنية المناهضة للإرهاب والفكر الظلامي لتسليط الضوء على جرائم الجماعات المسلحة في سورية ولبنان والعراق وليبيا ومصر. أما الأوقاف فعليها حفز الأطر الدينية والأئمة والفقهاء لتوضيح مكامن الخلل في منظومة الفهم التي تقبع خلف سلوك تلك الجماعات الإرهابية. ومن ناحية ثانية ينبغي أن يكون هناك تنسيق بين الوزارات الثلاث كي يكون هناك تداخل بين عمل تلك المصالح والجهات، ضماناً لتأثير أوسع مدى وأكثر إيجابية في الرأي العام.
على البرلمان المغربي أيضاً تأسيس لجنة مشتركة من النواب وهيئات المجتمع المدني والحقوقيين وباقي الفاعلين غير الحكوميين، لتوسيع مدى الخطة، ومنعاً لأي ممانعة تحت أي عنوان لمضامين الخطة، فالخطر محدق بالجميع، ويجب عدم التساهل مع أي تهديد تحت عناوين حقوق الإنسان أو غيرها، لا سيما أن العدو متعطش للدم، ولا يرى في كلّ من سواه سوى كفار وفاسقين وضالّين! بل يرى أن العالم كلّه أصبح دار حرب.
على جهازي الأمن الناعم والأمن الخشن أن يتدربا كذلك على أساليب مبتكرة في التعامل مع تلك الجماعات في حالة هجومها من أي جبهة. ولأجل ذلك يجب تشكيل لجان للدراسات في الجيش والشرطة بالاشتراك مع الباحثين المتخصصين في الدراسات الأمنية والعسكرية، للتمكن من فهم طبيعة عمل هذه المجموعات وأسلوبها القتالي، وللتعامل الناجع معها وعدم تكرار أخطاء الجيش التونسي في جبل الشعانبي.
على المستوى الإقليمي: ينبغي أن يقدم المغرب بحكم موقعه مبادرة متوسطية للأمن، يدعو من خلالها الدول المهددة بالإرهاب، أو التي تعاني الإرهاب، للعمل على بلورة خطة دفاع مشترك، وضمان تنسيق أعلى بين أجهزة الاستخبارات. وبدأ هذا الأمر فعلاً منذ مدة بين الاستخبارات الاسبانية والمغربية وأسفر عن تفكيك خلية سبتة. لكن كل ما يمكن أن تقدمه تلك التحركات هو إمكان التأسيس عليها، فلا بد من تحولها إلى إستراتيجية مرسومة، واضحة، دقيقة، للتعاون المشترك في هذا الصدد. ولا بد من أن تثمر عقيدة عسكرية تتقاسمها جيوش بلدان المنطقة، قوامها الهجوم الاستباقي على مواقع الإرهاب ومداخلها.
المؤشرات الإقليمية والدولية كافة توحي أن ما تقدم بات ضرورياً، فلِمَ التأخر المغربي؟ هل هو مواكبة لإيقاع التموضعات الدولية والإقليمية من المسألة؟ أم قصر النظر والعمى الاستراتيجي؟
يؤمل ألا يكون المغرب آخر طائر يصيح في السرب.
باحث في العلوم السياسية