ليست نكسة.. بل هزيمة كبرى بامتياز
راسم عبيدات
النكسة تُقال عندما يكون شخص سليم معافى وفجأة ينتكس وضعه وتتدهور حالته، والحالة العربية عشيّة حرب حزيران عام 67، لم تكن سليمة ومعافاة، بل كانت الاستعدادات العسكرية لمحاربة إسرائيل و«إلقائها» في البحر، ليست أكثر من «عنتريات» و«زعبرات» في الإعلام، حيث كشّفت الحرب عمق العجز العربي، وضعف حالة التسليح وانخفاض المعنويات، ودعك عن الخيانات والمؤامرات المرتبطة بالعقلية العربية، فنحن في هذه الحرب هزمنا شر هزيمة من محيطنا لخليجنا، حيث خسرنا كل فلسطين التاريخية وأضفنا إليها سيناء المصرية والجولان السورية ووادي عربة الأردنية، وثبت أنّ البرجوازية الوطنية العربية قد انهار مشروعها، وكانت»إذاعاتنا وزعاماتنا تصفق للهزيمة على أنها «انتصار» عظيم، حتى أننا في جبل المكبر هللنا وكبرنا ورقصنا، ونحن نسمع صوت المذيع المصري الشهير الراحل أحمد سعيد من صوت العرب وهو يقول» كبِّر يا مكبِّر كبِّر… حرّرنا جبل المكبر» وإذا بالدبابات التي ذهبت لاستقبالها بالشاي بناءً على طلب والدي المفتون بالرئيس الراحل عبد الناصر، ليست عراقية كما تصور والدي، بل هي «إسرائيلية»، ولكي نصحى من كابوسنا بأنّ المكبر والقدس وبقية فلسطين قد ضاعوا.
صحوّنا نحن الفلسطينيون على كبر حجم «الخازوق» فلا عودة لا لحيفا ولا يافا ولا صفد من بعدها، فالشعار الآن أصبح إزالة آثار العدوان، استعادة الأراضي المحتلة عام 1967، وأهلنا في الجذر – 48 – أدركوا أكثر منا نحن «المنتكسون» عام 67، أنّ ما حلّ بنا هو «خازوق» كالخازوق الروماني «مبشّم»، ويستدعي الصمود والبقاء والتشبث بالأرض، فالعودة أصبحت بعيدة المنال، والحرب على الوجود الفلسطيني ستشتد، والاحتلال سيزداد «توغلاً» و«توحشاً»، على الوجود والحقوق.
تسعة وأربعون عاماً مضت على ما يسمى بالنكسة وثمانية وستون عاماً على النكبة، و نشهد المزيد من النكسات والنكبات نحن العرب والفلسطينيون، فلم نستطع رغم كلّ الحروب والمعارك التي خضناها، أن ننقل شعار الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية إلى الإمكانية الواقعية، وأبعد من ذلك ازدادت نكباتنا وانتكاساتنا، بحيث أصبحت تهدّد بكارثة حقيقة، تفكك قضيتنا ومشروعنا الوطني، حيث «أوسلو» الذي يوازي في تداعياته ونتائجه النكبة، قسم الأرض والشعب وفكك نسيجه المجتمعي، وليأتي الانقسام ليفعل وما زال يفعل فعل السرطان في الجسد الفلسطيني، نكبات ونكسات لا يصنعها الاحتلال والأعداء فينا فقط، بل نحن نصنعها بأيدينا.
والعرب الذين كنا نعقد عليهم الرهان والأمل، من أجل استعادة فلسطين وتحريرها، كانوا يستغلون قضيتنا من أجل الاستثمار والتجارة والمضاربة فيما بينهم، ورغم ذلك بقيت حتى مرحلة توقيع اتفاقية «كامب دايفيد» المشؤومة قضيتهم الأولى، بغض النظر عن خلافاتهم وتحالفاتهم، ولكن منذ «كامب ديفيد»، وبعد «أوسلو» واحتلال العراق، رأينا الكثير منهم وجد أنّ ذلك يمكِّنه من التحلل القومي اتجاه فلسطين والقضايا العربية، وأصبح التركيز على الهموم القُطرية الداخلية، له الأولوية على القضايا العربية وفي المقدمة منها قضية فلسطين، ولم تقف الأمور عند هذا الحدّ، بل بعد ما يسمى بـ «الربيع العربي» ودخول العرب في حروب التدمير الذاتي والحروب المذهبية والطائفية التي فككتهم مجتمعياً، والتي أوجدت ندباً وجروحاً عميقة في الواقع العربي، يصعب دملها وشفائها، وجدنا أنّ قضية فلسطين لم تعد لا عنوان الصراع ولا البوصلة للكثير من البلدان العربية، التي عمّقت الحروب المذهبية من أزماتها وأثخنتها بالجراح، وجزء منها أصبح يشارك المحتلّ في التآمر على قضية شعبنا وحقوقنا.
اليوم الحروب مستعرة على المنطقة العربية والقضية الفلسطينية، حيث أنّ الدول الاستعمارية، تريد رسم مشروع إستعماري جديد للمنطقة العربية، يقوم على إعادة إنتاج سايكس ـ بيكو جديد يقسم المقسم ويجزّئ المجزأ، من أجل خلق كيانات اجتماعية عربية هزيلة على حدود وتخوم المذهبية والطائفية، بحيث تبقى الهيمنة الاستعمارية على المنطقة العربية لمئة عام مقبلة، بما يحتجز تطورها وينهب خيراتها وثرواتها ويمنع توحدها، ويضمن بقاء دولة الاحتلال الصهيوني متفوقة وصاحبة اليد الطولى في المنطقة، «تعربد» وتبطش بكل من تسول له نفسه شق عصا الطاعة والتمرد على المشاريع الاستعمارية في المنطقة الأمريكية والأوروبية الغربية أو الصهيونية.
فلسطينياً الانقسام يتعمق ويشرعن وقيادات تتخبط وتفقد البوصلة والاتجاه، لا رؤيا ولا برنامج ولا استراتيجية موحّدة ولا حلّ يلوح في الأفق لإنهاء الانقسام، بل نشهد حالة من التحريض الداخلي والحقد على بعضنا أكثر من التحريض والحقد على الاحتلال، ومشاريع تصفية المشروع الوطني والقضية، تزداد كثافة وبمشاركة عربية وإقليمية ودولية، حيث وضعنا الداخلي الفلسطيني المنقسم على ذاته، وحالة الانهيار العربي والإرادة الدولية المعطلة، كلّ ذلك يشكل فرصة تاريخية نادرة لأعداء شعبنا الفلسطيني، من أجل الهجوم والانقضاض علينا، فهناك ما يسمى بالمؤتمر الإقليمي الذي عقد في باريس، والذي نجحت أميركا في فرض الجدول «الاسرائيلي» عليه، حيث لم يجرِ التطرق إلى حقوق شعبنا وإنهاء الاحتلال، بل أعيد التأكيد على المبادئ العامة، وأنّ الشعب الفلسطيني يحصل على حقوقه من خلال المفاوضات فقط. هذا الماراثون المستمر منذ عشرين عاماً، لم يُفضِ إلى تحقيق أيّ من حقوق شعبنا، بل كان وسيلة للتغطية على ما يقوم به الاحتلال من إجراءات وممارسات بحقّ شعبنا، وفي مقدمتها «غوول» الاستيطان الذي يبتلع الأرض، وفي القطاع يجري الحديث عن حلول مؤقتة وهدنة طويلة برعاية إقليمية، تشطر بشكل نهائي المشطور من الوطن.
ما يحصل من تطورات ومتغيرات في المنطقة ستنعكس تداعياتها ونتائجها على قضيتنا الفلسطينية سلباً أو إيجاباً، وهذا يتطلب حتى نستطيع التجديف في هذا البحر المتلاطم وقيادة سفينتنا إلى بر الأمان، أن نتوقف عن حالة العبث والتجريب في المشروع الوطني عبّر اللهاث المستمر خلف مشاريع ومبادرات، عنوانها الرئيسي إدارة الصراع وليس حله وتصفية حقوق شعبنا، وأن نعمل على أن تكون هناك قيادة مبدعة خلاقة قادرة على إدارة الصراع وفق مصالح شعبنا العليا، وهذا يتطلب قيادة جماعية تعبر عن نبض شارعنا وآمال وطموحات شعبنا الفلسطيني، وهذا غيّر ممكن في ظلّ انقسام مستمر، وقيادات تقود الانقسام وتريد أن تقود إنهاءه، والشعب الفلسطيني ليس بعاقر حتى يلزم بأن تكون قيادته مؤبدة.
نكستنا وهزائمنا ستبقى مستمرة، في ظلّ وضع لا نتوحّد فيه ولا ننهي انقسامنا ولا نوحد رؤيتنا وبرنامجنا واستراتيجياتنا وقياداتنا وعناويننا، فالمشهد السياسي من حولنا مضطرب والمنطقة تقترب من لحظة الحسم الكلي، والمرحلة تحتاج إلى عمق بصر وبصيرة منا، لا أن نبقى في ظلّ الحركة، يرسم مصيرنا الطامعون في حقوقنا ومستقبلنا.
القدس المحتلة فلسطين
Quds.45 gmail.com