مي المصري في فيلمها الروائيّ «3000 ليلة» تتابع المسيرة مؤرِّخة لمرحلةٍ غابت فيها الانقسامات:
حاورتها: أميّة درغام
مع «أطفال جبل النار»، دخلنا معها إلى قلب المعركة في الانتفاضة الأولى… كانت تبحث عن وطن قريب لمسافة، فعبرنا معها حدود فرضها الاحتلال، لتنقل فضاء واسعاً فرضه أطفال الحجارة. إنها المخرجة الفلسطينية مي المصري، التي بدأت مسيرتها مع زوجها المخرج جان شمعون، ثمّ أنجزت أفلامها الوثائقية الخاصة، فكان دخولها فتحاً من نوع آخر. عودة إلى اكتشاف الوطن و«المقاومة الشعبية» التي تؤكد أهميتها في محاربة الاحتلال والظلم والاضطهاد.
هذه السنة، وبعد عشرات الأفلام الوثائقية ذات المسار الروائي، كانت لِمَي عودة إلى السنوات الأولى من ثمانينات القرن الماضي. عودة في فيلم روائيّ لم يخلُ من البحث الذي يتطلّبه الوثائقيّ لتبنّي رواية مستعادة ومشغولة، إذ دمج لبعض الشخصيات بشخصية واحدة. «3000 ليلة»، فيلم لا يشبه أساطير أو أقاصيص ألف ليلة وليلة، حيث لا جنّ ولا طيران من مكان إلى آخر في لحظات، إنما هناك خيال يلعب وظلال تسجّل مرور الوقت في سجن النساء لدى سلطة الاحتلال، وبالفكر يطير الإنسان خارج قيوده حرّاً طليقاً.
بين الحرّية والسهولة
سألتها إن جاء فيلمها الروائي الأول عن تعبٍ من الوثائقيّ أو نقلة تخطّ معها مساراً للمستقبل، فأجابت: «لم أتعب من الوثائقيّ أبداً، إنما على العكس كوني أحبّ العمل مع الناس وتعلّمت كيفية الإبداع في العمل الوثائقي. لقد تعلّمت كلّ الأمور التي أعرفها الآن من الأفلام التي أخرجتها، وقد تكوّنت شخصيتي من هذه الأفلام عبر السنين، كما من العلاقات التي نسجتها مع الشخصيات.
جاء الفيلم الروائيّ استمراراً طبيعياً، وتكملة لما أنجزته سابقاً. كما أني شخصياً لا أفصل بحدّة بين الوثائقيّ والروائيّ. ففي كلّ وثائقيّ استخدمت الأسلوب الروائيّ، كما أن في فيلمي الروائيّ من الحقيقة والتوثيق والأحداث المبنيّة على أحداث حقيقية ما هو يسير، كما أن الشخصيات مستوحاة من شخصيات حقيقية».
لكن هذا لم يمنعها من الدمج بين شخصيتين في شخصية واحدة، وتوافق مي المصري على ذلك، لتشير إلى أنه كانت لديها «الحرية للقيام بذلك، وهذا من مميزات الفيلم الروائي كونه غير مباشر».
غير أن هذه الحرّية لا تعني سهولة العمل الروائيّ سينمائياً، فهي تقول: «ضعي الفيلم الوثائقيّ في جانب والروائيّ في جانب آخر من حيث التعب والضغط والتحضيرات للروائيّ والبحث عن التمويل، ولكن هناك حرّية أكبر للإبداع لجمهور خاص بالأفلام الروائية، يمكن إيصال الفكرة إليه بشكل فعّال».
وكونها صوّرت في سجن في الأردن الذي استخدمته لفيلمها الروائي، كان لا بدّ من المقارنة بين الأحداث التي تعترض فريق العمل عند تصوير الوثائقي في قلب نابلس مثلاً في فترة حرجة جداً، وبين التصوير ضمن وقت محدّد لفيلم روائي، حيث في الأول كانت سلطة الاحتلال كما يظهر في أحد أفلامها تمنعها أحياناً عن التصوير وتوقفها، ولكن ما واجهته مي المصري من الأمور العادية. فهي، كما وصفت نفسها نتيجة الواقع المعاش «ابنة الحرب وابنة الاجتياح 1982 وابنة الانتفاضات والاحتلال». «لم يمرّ حدث واحد إن في لبنان أو في فلسطين إلا وعشته ووثّقته وصوّرته. فبات كل ذلك جزءاً من حياتي، وقد قوّت هذه التجربة من شخصيتي».
تجارب قاسية
التجربة التي أثّرت على مي كثيراً كانت الاجتياح عام 1982، الذي تعتبره «أصعب تجربة مررت بها في حياتي إذ كان الاجتياح كاملاً جواً وبحراً وبراً، والقصف متواصل ومركّز، وعشرات ألوف الضحايا، نحو 30 ألف ضحية تقريباً استشهدوا»، لتذكّر «نحن ننسى».
في سردها خلال المقابلة، كما في أفلامها، وصلت إلى عدوان تموز عام 2006، لتقول: شعرتُ حينذاك، وكانت شخصيتي قد اكتسبت قوة من تجاربي السابقة كإنسانة وسينمائية معاً، أنني جاهزة. ووجدت أن المجتمع المدني في لبنان كان هو الآخر جاهزاً للمواجهة وقد أثبت الناس هذا الأمر. ففي فيلم «33 يوم» وثّقت ما جرى وتابعت الناس والفنانين والإعلاميين والعاملين في الشأن الاجتماعي، وكانوا، جميعاً، يعملون على الأرض وقد فتحوا أبواب منازلهم للنازحين، فأحببت أن أُري الآخرين كما أسجّل للتاريخ ما كان يجري، لأننا ننسى وبسرعة.
هل لَمَسَتْ من خلال متابعتها المجريات، تراجعاً شعبياً في هذه الجهوزية التي كانت حاضرة بفعالية عام 2006، وبشكل لافت؟ تقول: هذا ما أقوله تماماً، لذا أسجّل وأوثّق لأننا ننسى، وفي أفلامي أودّ تخليد هذه اللحظات الإنسانية التاريخية، لأن بعدها تغيّر كل شيء، لا بل تمّ العمل بقصد وبتمويل مادي لخلق الانقسامات والشرذمات. العالم العربي انقلب تماماً، ولتحديد المفصل التاريخي فقد بدأ الانقلاب في عام 2005.
الحدس لا الصدفة
وفي عودة إلى الوثائقيّ، سألتها إن كان الحدس لديها يلعب دوره في اختيارها للناس الذين تتابعهم بعدستها وتنقل لنا رواية واقعية من حياتهم، فاعتبرت ردّاً على ذلك، أن الحدث مهمّ جداً ويلعب دوره في الاختيار على ألّا يترك المخرج الأمور للصدفة وعن طريق الخطأ واللحظة، وهنا تساعد العلاقات العامة مع الناس في التفتيش عن الشخصيات، كما للبحث دوره.
وإن شعرت يوماً خلف الكاميرا بالخيبة، تقول: كان حظي كبيراً إذ لم أصب يوماً بالخيبة. عند كل إنسان قصة يرويها، ولكن هناك أشخاصاً لديهم أمور أكثر من سواهم، كما يكون لهم حضور وعفوية وصدق أمام الكاميرا، كما للمخرج دوره في كسب ثقة الشخص الذي اختاره للتصوير، وهي من الأمور المهمة جداً التي نعمل عليها أنا وجان شمعون ، إذ نبني علاقة مع الناس ونُنسيهم الكاميرا فيفتحون قلوبهم.
وتضيف: صحيح أننا كنّا نمسك بالخيط، إنّما من دون أن نظهر ومن دون أن نجيّر الحديث. لست من النوع الذي يحبّ الحديث المباشر أو المحضّر، أنا مع العفوية على أن تكون واعية.
مسارات الأفلام الوثائقية لدى مي المصري، تقودنا إلى وطن وقضية، فهل يا ترى كانت هي الأخرى تبحث مثلنا جميعاً عن رائحة الوطن وملمس التراب؟ هل كانت في أفلامها تبحث عن وطن ضائع؟ تقول: في البداية نعم. حين عملت على فيلمي الأول في فلسطين «أطفال جبل النار»، كنت أبحث عن هوية وانتماء إلى أرض. اكتشفت هذه الأمور خلال التصوير، صحيح أنني كنت كما كل الفلسطينيين الذين يعيشون خارج فلسطين، لديّ الحلم الفلسطيني الذي يشبه الحلم المثالي. إنما عندما عدت إلى فلسطين، وتحديداً إلى نابلس، صار هذا الحلم حقيقة، صار مرتبطاً بأرض وناس ومكان وزمن، وحينذاك كان زمن الانتفاضة الأولى الذي لم نعش مثله منذ ذلك الحين. شهدت تلك المرحلة صعود المقاومة الشعبية التي أؤمن بها جداً، شاركت فيها كل القطاعات وكل الأعمار. حين كنت أصوّر كنت كأني أحاول استرجاع شيء ضاع منّي. صوّرته بالكاميرا كأنه أتيح لي أن أرجع، وأن أسترجع الوطن الضائع.
«3000 ليلة»
وتسترجع زمن تصوير «أطفال جبل النار»، لتقول: كانت تخرج لي مفاجآت خلال التصوير، كأن أكتشف أقارب لي أمام الكاميرا، إضافة إلى الأحداث التي عاينتها وصوّرتها حيث كانت نابلس كلّها ثورة ضد الاحتلال ومنتفضة. كان التصوير ممنوعاً حينذاك، وقد فُرض حظر التجوّل. فكان العمل ككلّ فيه نوع من التواطؤ من دون اتفاق، حيث الجميع يساعدون بعضهم لننقل الصورة والنصّ، مدركين أهمية إيصال ما يجري وأهمية أن يتم إنجاز الفيلم كي يصل إلى العالم.
وتضيف: في الفيلم الروائي الجديد «3000 ليلة»، نشيد «يا ظلام السجن خيّم» وهو النشيد الذي كتبه سوريّ وهو في الأسر إبان الاحتلال الفرنسي، فالنشيد ضدّ الاحتلال، وقد سألتني إن كنت أسترجع فلسطين، حسناً إنني لا أسترجعها وحسب، إنما كما في «3000 ليلة» الذي يحكي عن تجربة أسيرات فلسطينيات في سجون الاحتلال، إنما يضيء في الوقت عينه على تجربة مشتركة في النضال في كل من فلسطين ولبنان في الثمانينات.
وتقول: لبنان معقل المقاومة الفلسطينية، والشعب اللبناني أكثر الشعوب العربية التي قدّمت للقضية الفلسطينية. وقد صوّرت تحرير الأسرى، وكان معظمهم من اللبنانيين، من معتقل أنصار، من الجهة اللبنانية، وهم حرّروا فلسطينيين ولبنانيين، على دفعتين، وثّقت الحدث لأن هذه الأمور تعني لي الكثير، فالفيلم ليس فقط عن لبنان وفلسطين في المحصلة، إنما يعبّر عن النضال ضد الاحتلال والاضطهاد بشكل عام. فقد عرض الفيلم الروائي قبل عرضه في لبنان في مهرجانات عالمية في كندا وأوروبا والهند وكوريا الجنوبية ودول أخرى نائية، وقد تفاعل معه الناس بشكل رائع تفاعلاً إنسانياً لافتاً، وإن كان منهم من لا يعرف شيئاً عن فلسطين، فقد لامسهم لأنه يحاكي الحق. حين يملك المرء الحق ويناضل من أجل حقّه، سيلامس الناس فيتفاعلون معه، وقصة الفيلم عن أسيرات وتحديداً التركيز على أسيرة، هي معلمة مدرسة ليست مناضلة، تلد طفلها في الأسر وتربيه لفترة وتقف وتواجه وتتعلّم النضال بشكل عفوي، وهي قصة إنسانية من الواقع.
«3000 ليلة» فيلم روائيّ يلعب على مستويات عدّة، إنما تغيب عنه مَشاهد الدم، حتى حين تُقتل إحدى الأسيرات مباشرة بالرصاص، المشهد ليس دموياً والأثر فيه قويّ بالحدث نفسه، لا بالدماء. فمن هذه المستويات، هذا الجانب الذي تقول مي المصري عنه إنه كان مقصوداً. «إذ إني ابتعدت عن مشاهد الدم، كوني أدرك أنها مشاهد مقززة، وكوني أعلم سينمائياً كيف أستطيع ايصال قساوة الأسر من دون مشاهد التعذيب والدم، هناك الضغط النفسي ومستويات أخرى قصدت أن أريها للجمهور الذي، ربما، كان يتوقع من فيلم عن الأسيرات ابراز مشاهد عنفية. إنها قصة أستاذة مدرسة تلد طفلها في الأسر، وعلاقة الأم بطفلها وكيف تبني له عالماً لتعوّض له عن طفولته الضائعة، من خلال الرسم على الجدار وتعزيز الخيال عبر اللعب على الظلال لتسليته، والعصفور الخشبي الذي صنعه له طبيب فلسطيني أسير في مشفى المعتقل، وهذا شيء جديد، أحببت أن أريه لأبرز كيف يكون الخيال عند الأسرى من أهمّ الأسلحة للمواجهة. ففي خيالهم يصمدون، ويتحرّرون ويخرجون من المعتقل ويعيشون كل لحظة من الماضي، فالأحلام عندهم هي الأهمّ. طوّرت هذا المستوى من الفيلم روائياً لأحدث توازناً بين القسوة والشعر، بين انعدام اللون حيث كانت الألوان ممنوعة لاعتبار المحتلّ أنها جزء من الحياة فلم يكن مسموحاً إلا رؤية الكحلي والرمادي، وبين الخيال الذي يخرج من هذه الممنوعات إلى الأفق».
معاناة داخل الأسْر
مستوى آخر في الفيلم، حاكته الروائية مي المصري، المستندة على توثيق وبحث ومقابلات مع أسيرات تحرّرن، هو الدمج في المعتقل حينها، أي في النصف الأول من الثمانينات، بين الأسيرات الفلسطينيات واللبنانيات من جهة، والمرتكبات جرائم وجنايات من «الإسرائيليات»، وما كان مقصوداً حينذاك، لأن بعض المجرمات أو الجنائيات كنّ عنيفات ولهذا السبب تمّ وضعهنّ مع أسيرات النضال، لم يعد كذلك لخوف عند سلطة الاحتلال نشأ بسبب قدرة تأثير الأسيرات على أولئك بشكل ايجابي على المستوى السياسي، وقد أظهرت هذه الناحية في الفيلم. فالأسيرات شكّلن في ذلك الحين ما راح يسمّى بجمهورية، إذ نظّمن أنفسهن وكنّ على مستوى ثقافي عال، ومنهنّ من تعلّمن في الأسر، وقد كان ممنوعاً سابقاً إدخال ورقة وقلم، وهذا جزء ومستوى آخر من النضالات التي قامت بها الأسيرات كما الأسرى حين كنّ ينظمن الإضرابات داخل الأسر. هذه المعلومة عرفتها مباشرة من الأسيرة اللبنانية المحرّرة خديجة حرد حين صوّرتها في فيلم «زهرة القندول» سابقاً، فهي أولى من لفتت نظري، وقد تم أسرها من جنوب لبنان وتم اعتقالها في سجن الرملة، فأخبرتني كيف كان اكتشافاً بالنسبة إليها عالم الأسيرات الذي سمّته بنفسها بتعبير «جمهورية النساء»، فقد عمل النساء حكومة داخل السجن، ونظّمن أنفسهن بشكل عملي، وتعلّموا وتابعوا للأسيرات الصغار «التوجيهي»، وهذا أمر مهم جداً.
لذا أعتبر أن مرحلة الثمانينات هي المرحلة التأسيسية، وسبقتها في السبعينات الحركة الأسيرة. لقد حصلن على بعض الحقوق من إرسال رسائل والحصول على قلم وورقة وسوى ذلك من خلال نضالاتهن في الأسر، وقد تراجعت نوعاً ما هذه الحالة اليوم مع الانقسامات.
إن اختيار صناعة فيلم عن أسيرات تحديداً، جاء بناء على عدّة أسباب، منها كما تشير إليه المصري، أنه لم ينجز أي فيلم روائي طويل عن الأسرى بشكل عام، خصوصاً الأسر الانفرادي، من جهة. ومن جهة ثانية، للأسيرات النساء والصغيرات منهن عدّة مستويات ربما لا تتوفر لدى الأسرى، من مثل ولادة طفل في الأسر، التي ترى المصري أن لولاها، لما كنت أنجزت ربما الفيلم عن الأسيرات، لأن الموضوع بحد ذاته غنيّ جداً، كما تربية طفل داخل المعتقل، كما الاختلاط بين الأسيرات والجنائيات «الإسرائيليات».
وتضيف: كوني امرأة، لديّ أمور أستطيع فهمها ونقلها لأنني أفهمها.
أما على المستوى الإنساني بشكل عام، لعنصر المرأة، وأكثر من المرأة الطفولة، تأثير على الناس، كما أنه المحرّك إنسانياً.
عن رأيها بتهريب نُطَف الأسرى لزوجاتهم، وإن كانت هي نفسها في فيلمها الروائي أو أفلامها الوثائقية التي أنجزتها تشبّه بعملها هذا التهريب الذي يجري تحدّياً للمحتل، تقول: إنه أمر مفرح ولافت. لأن المحكوم مؤبداً أو لـِ200 سنة، يساهم فعل تهريب النطفة لديه في فرحه وتحدّيه في خضمّ هذا الألم الموجود. وأعتبِرها فكرة مهمة.
أما عن الأفلام، فتعتبرها كذلك أيضاً منذ اللحظة الأولى لتصويرها أفلامها في فلسطين، حيث بدأت في فترة كان فيها الضغط هائل لعدم معرفة العالم بما يجري ولعدم بث الصورة عمّا يجري. وبالتالي، كان انجازاً تظهير هذه الصورة وكان عملنا بمثابة خرق الحصار، الحصار الموجود على الأرض، كما الحصار الإعلامي المفروض عالمياً، كما عربياً.
عن محاربتها، تشير إلى أنها تواجهها وسواها لا هي فقط. «وأنا جزء من المعركة، التي نحن الرابحون فيها، وأقول ذلك على المدى الطويل، لأن لدينا قضية إنسانية محقّة. والحق أهمّ سلاح نملكه».
وإذ تعتبر الكاميرا جزءاً من السلاح، تشدّد، أنه، تاريخياً، كل الشعوب التي تحرّرت إنما تحرّرت من خلال المقاومة.
المرأة والنضال
عن التوجه الديني للأسرى الذي شهدناه بعد الثمانينات، وإن لمسته في توثيقها لمرحلتَي السبعينات والنصف الأول من الثمانينات، تحدّد أن هذا التوجه لم يكن موجوداً في السابق، إنما تمّ العمل عليه منذ منتصف الثمانينات إلى اليوم، وكان المفصل العام 1982، حين اجتاح «الإسرائيلي» لبنان، لأن بعده، انتشرت الشرذمة الطائفية والأحزاب الطائفية، وكان للاحتلال مصلحة في ذلك حيث أعطى المجال لفئات لتضرب فئات أخرى كي يقضي على عمل المقاومة.
عن الخيانة التي أظهرتها في الفيلم بشكل عابر ولكن مؤثر، كما تخلّي الزوج عن زوجته تابعاً مصلحته الخاصة، حتى أنه طلب منها الكذب في المحكمة أنها نقلت صبياً متهماً بقتل «إسرائيليين» تحت تهديد السلاح، وهذا ما لم يحصل إذ نقلته عفوياً من دون تهديد، تقول المصري: لقد أظهرت أكثر من نموذج، نموذج الموقف الإنساني للأسيرة «ليال» وهي غير مسيّسة وإنسانة عادية وليست بمناضلة في الأساس، إنّما لديها موقف إنساني، وهذا الموقف سبّب لها الأسر. أسرت ورفضت طلب زوجها بأن تكذب لثماني سنوات، تحوّلت خلالها لتصبح جزءاً من الحركة النضالية. اختارت كأمّ أن تدفع الثمن وتخسر ابنها في ما بعد ولكن لمصلحته. هناك نماذج أخرى، فالفلسطيني ليس له شكل أو لون واحد، إما أسود أو أبيض، فيه الضعيف والقوي، والمناضل والمتعامل، والعادي. وكذلك بالنسبة إلى الرجال، إزاء الزوج هناك الطبيب الأسير المنفتح والمختلف تماماً عن الزوج، إذ أنه احترمها كامرأة. وكذلك الأسيرة التي تخضع متحججة بأولادها و«ليال» التي ترفض الخضوع. وعلى المستوى الاجتماعي، الأسيرات دفعن ثمناً غالياً. منهن من لم ينتظرهنّ أزواجهنّ، وهذه حقيقة لا نتحدث كثيراً عنها، ولكنّها موجودة.
هل تشعر مي المصري بعد عدد من الأفلام الوثائقية، والانتقال ـ وإن استمراراً لخطّ واحد ـ إلى الفيلم الروائي، أنها على مفترق طرق بعد «3000 ليلة»، تقول: أنا بالفعل على مفترق طرق الآن، فهي نقلة نوعية بالنسبة إليّ، هي طبعاً استمرار وليست كسراً مع الماضي، ولكنني أشعر أن عليّ أن أقدّم أكثر الآن وأن أنجز قفزات إذا صحّ التعبير. فأنا في كل مساري السينمائي، لم أختر إلا المواضيع التي تمسّني شخصياً، وفي بالي مواضيع عدّة، وشعرت مع الفيلم الروائي أنني اقتربت أكثر فأكثر من الناس، ولدي الاندفاع لأعمل أكثر.
في الختام، الذي ليس ختاماً، كان حديث عمّا سمّي الآن بانتفاضة السكاكين، لتعود وتؤكد كونها شهدت وسجّلت الكثير من الانتفاضة الأولى في نابلس، أن كل فترة تحصل هبّات شعبية، ولكن يبقى الأهم بالنسبة إليها ألا تقتصر على تحركات فردية هنا وهناك، إنما أن تكون كما الانتفاضة الأولى، مقاومة شعبية شاملة بعيدة عن مرض الانقسامات والشرذمة الطائفية التي انتشرت في كل الدول العربية، مسترجعة مشهد الانتفاضة الأولى، رجال في غالبيتهم في الأسر، شيوخ ونساء طاعنات في السن ونساء وصبايا وشباب وأطفال، يتعاونون على السطوح يراقبون ويهاجمون ويقاومون بكل الوسائل المبتكرة بالزيت والحجارة، وبأيّ وسيلة متاحة. وتقول: المقاومة الشعبية هي الأهمّ.