دراسة حول سلطة الأبوّة… النصّ والعلاقات النصّية عند العرب 1

كتب د. مصطفى بيومي عبدالسلام: اعتنى النقد العربي القديم عناية بالغة ودقيقة بفكرة العلاقات بين النصوص، وقدم توصيفات كثيرة ومتنوعة لهذه العلاقات وبرز في النقد الغربي المعاصر في أواخر الستينات من القرن العشرين مفهوم جديد أطلق عليه النقاد مصطلح «التناص» يُعنى أيضًا بالعلاقات بين النصوص. فهل يعني ذلك أن النقد العربي القديم أدرك من خلال بحثه فكرة العلاقات فكرة التناص أو أدرك جوهرها وإن لم يسمها أم لم يقترب منها؟

تحاول هذه الدراسة الإجابة عن هذا السؤال. لكن يجب أن أؤكد في البداية على أن النقد العربي القديم هو جزء من التراث العام الذي أنتج في فترة تاريخية معينة وفي إطار شروط معرفية محددة، فهل يدفعنا ذلك إلى الاعتقاد بأن النقد العربي القديم لم يمس هذه الفكرة التي برزت في نهاية ستينات القرن العشرين، وأنه كان بعيدًا تمامًا عنها، أم أننا سوف نحاول تأويل النصوص النقدية القديمة وإنطاقها بها لكي نبرهن عن أن النقد القديم فهم حقاً فكرة التناص قبل أن تطرحها نظرية ما بعد البنيوية بقرون؟

لن نقوم بهذا أو ذاك، بل نحاول أن نفهم جيدًا الكيفية التي تأسس عليها فهم النقاد العرب القدماء للعلاقات بين النصوص، ومن ثم نتمكن من أن نقرر إن كانت تلك الكيفية يمكن أن تتطابق مع فكرة التناص أم لا.

لكن ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أن مفهوم التناص انبثق في ظل التحوّل الذي أصاب النظرية الأدبية والنقدية في نهاية الستينات من القرن العشرين، إذ تحول من النص المغلق إلى النص المفتوح، ومن ثبات المعنى إلى لعبة الدال، ومن استهلاك النص إلى إنتاجيته، ومن البحث عن سلسلة أنساب النصوص إلى البحث عن التبدد والتبعثر والانفجار. بعبارة أخرى، هو تحول أفضى إلى تدمير مركزية الصوت والأصل والبنية واللوجوس.

إن التناص في عبارة موجزة يشير إلى عملية تحويل الأنساق والأنظمة إلى أنساق أو أنظمة جديدة تدمر الأنساق القديمة وتتجاوزها. إنه يتأسس على سميوطيقا الانتقاد أو انتقاد السميوطيقا، أي انتقاد النمذجة والمعنى الثابت والمدلول المتعالى والعلامة المنقسمة إلى دال صوت ومدلول معنى . بعبارة أخرى، إن التناص يتأسس على مفاهيم ما بعد البنيوية ويشتغل ضمن نطاق مفاهيم النصية والبلاغية ولعبة الدال.

إن النص في تصورات ما بعد البنيوية لم يصبح ذلك الكيان المحدد المسيج الذي ينطوي على دلالة وحيدة ثابتة أو معنى متعالٍ، إنما أصبح دالاً يشير إلى سلسلة لا نهائية من الدوال، وهذا الدال في حالة من البحث الدائم المستمر عن مدلوله وإن وجده، ولن يجده مطلقًا. يتحول إلى دال جديد وسلسلة لانهائية من الآثار الخلافية التي لا تكف عن توليد غيرها. فكرة التناص، لا تشير إذن، إلى فكرة العلاقات النصية المحددة، فالتناص بوصفه استراتيجية تأويلية يفتح النص على آثار لانهائية، وتتم عملية تأويله ضمن إطار نص المجتمع والتاريخ الثقافة وتجتهد كل قراءة في أن تفترض شبكة من العلاقات تتغير مع كل قراءة لذا يختلف التناص عن نقد المصادر والتأثيرات، يصبح مسمى هزيلاً إذا استخدم بوصفه نوعًا من نقد المصادر والتأثيرات. إن التناص، بعبارة موجزة، يدمر الأصل والمصدر والأبوة والنسب.

لا يعنينا في هذا السياق أن نقدم درسًا تفصيليًا لفكرة التناص في النقد الغربي، فهذا يمكن أن يكون موضوعًا لدراسة لاحقة تُعني بذلك، إنما الذي يعنينا أن نفحص فكرة العلاقات النصية في النقد العربي القديم، ومدى تجاوبها مع فكرة التناص، وسوف نعمد حتمًا إلى فحص الدلالات القديمة لمفهوم النص في الثقافة العربية: إنه فحص يتوجه إلى بنية الثقافة نفسها التي يمكن أن تنتج مفهومًا مثل التناص أو غيره، وسوف تعيننا المرجعية المعجمية اللغوية لكلمة النص على اكتشاف الدلالات المتنوعة لها التي يمكن أن تكون، أو هي بالفعل كذلك، دلالات مركزية في بنية الثقافة، فاللغة هي مركزها الدال عامة.

لم تفارق تلك الدلالات لمفهوم النص، على ما أعتقد، التصورات النقدية والبلاغية القديمة، بل ربما حرصت بطريقة أو بأخرى على تعضيدها وتأكيدها. ما يدفعنا إلى أن ننفي بطريقة قاطعة إمكان التناص في النقد العربي القديم والبلاغة القديمة.

لكن لا بد من الانتباه إلى أن ما رصده هذا النقد وتلك البلاغة من أشكال متنوعة للعلاقات بين النصوص لا يمكن أن يرتبط بفكرة التناص، إنما بمفهوم النص الذي يحرص على رد كل مصنوع إلى صانعه. إنها أي تلك العلاقات تأكيد لفكرة أنساب النصوص والأبوة التي تخلق معنى النص المحدد أو تبتكره.

تتعارض فكرة التناص بطريقة جذرية مع فكرة ارتداد النص إلى صاحبه أو مؤلفه أو إلى مبتكره الأول. يقوم التناص بعملية تدمير لتلك الأبوة وشرعية النسب، مستبدلاً إياها بشرعية الدال فاقد أصله ونسبه. لا يحيل الدال على مدلول ثابت متعالٍ، إنما يحيل على سلسلة لانهائية من الدوال، وتلك السلسلة تؤكد الطبيعة الخلافية الإرجائية للكتابة التي تدمر الأصل والمركز.

كان النقد العربي القديم حريصاً على فكرة الأبوة وشرعية النسب التي تخلق معنى مبتكراً مبتدعاً للنص، وكان بحثه في علاقات النصوص أو العلاقات بين النصوص هو تأكيد هذه الفكرة.

لا أعتقد أن النقاد والبلاغيين العرب القدماء دار في خلدهم تقديم استراتيجية قرائية أو تأويلية تعتمد على فكرة العلاقات بين النصوص، إنما أعتقد أنهم صنفوا ووصفوا النصوص ضمن استراتيجية أخرى هي البحث عن نقاء النصوص ونسبتها إلى أصحابها. كانت تلك الاستراتيجية حريصة على أن «تبين عن حدود كل نص في علاقته بغيره بما يردّ كل نص إلى صاحبه، بواسطة مجموعة من المصطلحات الوصفية التي تؤكد الملكيـة، وترد كل مجتزئ من المصنوع إلى صانعـه الأصلي في جميع الأحوال».

قد أتصور أن الناقد أو البلاغي كان يتلقى البيت من الشعر فيعرضه على ذاكرته أو مخزونه المعرفي، فإن لم يجد ما يشبهه نعته بصفات الابتداع والاختراع والسبق إلى المعنى، أو بأنه أول في بابه حاز فضل السبق والابتكار. وإن وجد ما يشبه هذا البيت بدأ في عملية التصنيف وتوصيف العلاقة، فهذا الشاعر اقتبس كلمة أو آية من القرآن الكريم أو جملة من الحديث الشريف، أو ضمن معنى لشاعر آخر وأودعه في بيته، وإن وجد تطابقاً بين بعض اللفظ أو بعض المعنى أو بتمام اللفظ والمعنى قدم اتهاماً مباشراً لهذا الشاعر بالسطو والسرقة، ثم يتفنن بعد ذلك في وصف درجة الأخذ والإفادة.

لا بد من أن يبتكر الكاتب أو الشاعر ويبدع شيئاً جديداً، فقد أشار أبو حيان التوحيدي في «المقابسات» إلى أن من أنشأ الكلام الأول كان صاحبه وهو بمثابة الأب له، ومن أراد أن يفترع كلاماً لا بد من أن يستقل عن غيره، ولا يحتاج إلى شيء فيه من كلام غيره، ولذلك فإن: «كل مبتدئ شيئاً فقوة البدء فيه تفضي به إلى غاية ذلك الشيء، وكل متعقب أمراً قد بدأ به غيره، فإنه بتعقيبه يفضي إلى حد ما بدأ به في تعقيبه ويصير ذلك مبداله، ثم تنقطع المشاكلة بين المبتدئ وبين المتعقب».

إن الكاتب أو الشاعر هو صاحب الكلام وهو الأب له، وهو الذي يرتد إليه فعل الكلام، فبقوة البدء يصل إلى غاية الشيء، ومن أراد أن يفترع كلاماً من الأصل لا بد من أن يستغني عن الأصل ويصبح أصلاً جديداً لا يمكن أن يرتد إلى أصل سابق عليه، أو بعبارة أخرى: إن النص لا يمكن أن يرتد إلى نص آخر أو نصوص أخرى، إنما ينبغي أن يكتفي بنفسه قاطعاً ما يمكن أن يصله بنصوص أخرى، لأن صلته بنصوص أخرى قد تعكر نقاءه وانتماءه إلى صانعه الأول.

ربما كان النقاد والبلاغيون ينظرون إلى النص الذي يستدعي نصوصاً أخرى نظرة لا تخلو من الشك والريبة، وكان يوضع دوماً في مرتبة أقل من مرتبة الأصل الذي ينقل منه أو يتصل به. ففي باب «السابق واللاحق والتداول والتناول»، يقول أسامة بن منقذ إن الشاعر قد «يأخذ البيت فينقص من لفظه أو يزيد في معناه أو يحرره، فيكون أولى به من قائله، لكن الأول سابق والآخر لاحق».

ورغم أن الشاعر اللاحق قد يكون أولى بالمعنى من قائله أو صانعه مبتدعه ومخترعه فإن السابق يحوز فضل السبق، فهو الأول الذي ابتدع المعنى، وهو الذي يعود إليه فضل اختراعه، أو على حد عبارة ابن رشيق القيرواني: «المخترع معروف له فضله، متروك له من درجته». حتى ولو كان ذلك المعنى شائعاً مشتركاً، فإن الأصل فيه، كما يقول القاضي الجرجاني «لمن انفرد به وأوَّله للذي سبق إليه».

إن بعضاً من هؤلاء النقاد والبلاغيين نظر إلى «التضمين» على أنه من العيوب، و»التضمين» إما أن يطلق على «إدراج كلام الغير في أثناء الكلام لقصد تأكيد المعنى أو ترتيب النظم»، أو أن «يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلاّ به»، والسبب في هذا يعود كما ذكر صاحب كتاب «المصون في الأدب» إلى أن «خير الشعر ما قام بنفسه وكمل معناه في بيته، وقامت أجزاء قسمته بأنفسها واستغنى ببعضها لو سكت عن بعض».

أمـا «الاقتباس» فقـد اشترط بعض البلاغيين والنقاد أن يكون مقصوراً على القرآن والحديث. هذا التقييد والقصر يعني أنه لا يتم الاقتباس إلاّ من نص أعلى قيمة جمالية، وأكثر تأثيراً، وهنا يستخدم الاقتباس ليس بوصفه طبيعة تناصية مرتبطة بالنصوص أو متناصاً يتوطن حضوره داخل النص، إنّما بوصفه أداة لتحسين النص المقتبس بكسر الباء وتجميله، ثم لا يؤثر الاقتباس على نقائه وتفرد صنعه واكتفائه الذاتي، إنما يزيده حسناً وجلالاً. وتم تعريف الاقتباس بـ «أن يضم المتكلم إلى كلامه كلمة أو آيـة من آيات الكتاب العزيز خاصـة» وعرَّفَهُ الرازي في «نهاية الإيجاز» بقوله: «أن تدرج كلمة من القرآن أو آية منه في الكـلام تزييناً لنظامه وتضخيماً لشأنـه». هذان الضم والإدراج يشيران إلى عملية التمييز بين النصوص التي تفضي إلى اكتفاء كل نص بنفسه، لكن القرآن الكريم والحديث الشريف يمنحان النص تعظيماً لشأنه وتزييناً لنظامه، لذا يجوز الاقتباس منهما وقصره عليهما.

يلفت الانتباه، رغم كثرة المصطلحات الواصفة للعلاقات بين النصوص، أن النقاد والبلاغيين العرب لم يقدموا تأويلاً للنص كاملاً يعتمد على فكرة العلاقات، إنما وقفوا عند حدود البيت الشعري المفرد، أو الشطر، أو الجملة، أو الكلمة المفردة. كـان بحثهم في فكـرة العلاقات جزئياً، وما كان يسيطر علي تفكيرهم هــو الشاهد المفرد، لذا تكثر الصيغة الآتية في نقودهم: قال الشاعر: …، ومنه قول الشاعر: …، وأفضل منه: … ، إن ما يشغلهم هو فكرة البحث عن سلسلة تضم أنساب النصوص، وإسناد كل نص إلى صاحبه وتعيين انتمائه إلى مؤلفه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى