جنبلاط: خلاف أميركي سعودي حول سورية وإيران
روزانا رمّال
الاصطفاف السياسي بنزعاته التقليدية بين يمين أو يسار أو بين 8 و14 على الطريقة اللبنانية لا يأخذ في كل الحالات رسم طبيعة الميول السياسية للقوى التي تمثلها هذه الأطراف، فالاشتراكية التي كانت يوماً مزاجاً شعبياً عايش الزهد والتقشف، باتت اليوم في فرنسا على سبيل المثال تشكل أحد أبرز الأحزاب القادرة على صناعة رؤساء برجوازيّي الهوى والهوية، والأهمّ من كل هذا قدرة الاشتراكية على التحالف مع أكبر رأسماليات العالم وهي الولايات المتحدة الأميركية، فأضحت فرنسا برؤسائها الاشتراكيين حليفة واشنطن الأوروبية الأولى حتى انسحب المشهد على منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص لبنان القادر على تشكيل مروحة واسعة من الخيارات، فبات اللبنانيون أمام مشهد اشتراكي آخر يشكل الزعيم وليد جنبلاط أحد أوجهه المريبة ففي وقت تنزح حركات المقاومة لـ «إسرائيل» نحو تمتين علاقتها بالأرض يتوجّه جنبلاط منذ قرابة العشر سنوات نحو اصطفاف معاكس لأي حركة مقاومة بحيث لا تفسّر قدرته على فصل ملف دعم المقاومة بوجه «إسرائيل» وتضييقه عليها سياسياً ومعنوياً وفكرياً.
روسيا التي تتشارك ببعض ما تبقى فيها من يسارية أو شيوعية مع الاشتراكية الشعبوية بدت أبعد عن النائب جنبلاط من أيّ وقت مضى منذ دخول قواتها الأجواء السورية وحلولها بالشرق الأوسط مفصلاً وقاعدة ارتكاز أو تحوّل سياسي يبنى عليه في تصريحات متشنجة جداً قدّمها جنبلاط حول الدور الروسي في سورية في وقت يغيب عنه الدعم الأميركي لمجموعات إرهابية هناك.
كلّ هذا التناقض بين هوية جنبلاط وميوله وبين تمسّكه المحتوم بمفاصل السياسة الأميركية بالمنطقة تؤكد عليها انعطافته الكبرى ضد الدولة السورية بعد إصرار واشنطن على إسقاط حكم الرئيس بشار الأسد، بعدما كان قد نسج أفضل العلاقات معها عندما كانت واشنطن أبرز الموافقين على الوجود السوري الذي دام لأكثر من عشرين سنة من دون أن يعتبره النائب جنبلاط حينها وصاية. ساعة توقيت الولايات المتحدة محلياً يجسّدها النائب وليد جنبلاط بكلّ معاييرها فهو غير مضطر على سبيل المثال للخروج في مواقف حساسة مثل تلك التي صدرت عنه في 5 حزيران حول رفضه تحويل لبنان منصة أو ساحة سعودية أو عربية للهجوم على إيران، ليس مضطراً أيضاً أن يكشف النائب جنبلاط عن أجواء العائلة الحاكمة في السعودية وتشكيكها بنجاعة الإبقاء على عائلة الحريري في لبنان كخيار سني أول. كل هذا يضاف إليه نزوع جنبلاط نحو الإيحاء بقبول ترشيح العماد ميشال عون الذي لم ترشحه السعودية أو تبدي إيجابية لجهة قبوله والتي سبق ووضعت فيتو واضحاً على حراك الرئيس سعد الحريري منذ قرابة السنة الذي كان يهدف للتقرب من العماد عون وطرح الملف الرئاسي بكل أوجهه، حيث توقفت المباحثات فجأة .
يتمايز النائب وليد جنبلاط عن الموقف السعودي بشكل ظاهر يؤشر إلى تباعد تتحدّث مصادر متابعة عن انكفاء سعودي مالي وسياسي يؤخذ بعين الاعتبار ضمن برود لمشروع السعودية في لبنان من كلّ الأطراف التي تشهد تبعثر مواقف وتراشقاً متتالياً منذ الانتخابات البلدية وما أفرزته من تكريس الوزير المستقيل أشرف ريفي زعيماً طرابسياً أول.
العلاقة الأميركية مع المختارة شهدت أبرز تجلياتها في عهد السفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان، حيث قاد مرحلة ما بعد اغتيال الحريري وجنبلاط بشكل دؤوب لتنفيذ مفهوم واشنطن لشرق أوسط مستحدث ينسف مرحلة التعاون الإيراني السوري مع حزب الله ويؤسس لأرضية خلافية مذهبية كان من المفترض أن تندلع بشائرها في بيروت بعد اغتيال زعيم السنة «المعتدلين» في المنطقة رفيق الحريري.
يعيد جنبلاط تذكير الحريري الابن بضرورة الإبقاء على سلوكه المعتدل وعلى مداراة ومراعاة الحساسيات الشيعية ولو بقي واحد منهم أي من فريق الحريري في لفتة تعيد الزمن إلى عنوان الاعتدال الذي كان يحكي سيرة رفيق الحريري ويميّزه ضمن سياسة سعودية كانت تجتهد لتحافظ على صورتها. وربما كان التعاون السعودي السوري حينها يضع الرياض امام خط الوسط القادر على ضبط ملفات لبنان مع دمشق ضمن اتفاق دولي معروف الظروف.
حديث جنبلاط يؤكد نيات سعودية مقبلة ترى في ريفي مشروعاً متطرفاً قادراً على خدمة مرحلة مقبلة من دون أن يرى جنبلاط حرجاً في وضع المشروع السعودي ضمن دائرة الشبهات من جهة، ومؤكداً على تموضعه الأميركي الثابت من جهة أخرى. وهنا لا يعدو كون جنبلاط حليفاً للحريري إلا من بوابة الرغبة الأميركية منذ عام 2005 وليس السعودية التي تتجه اليوم نحو دعم ريفي من دون أن يبدو جنبلاط متحمّساً.
مطلوب شيء خارجي من ريفي، على ما يبدو، لم يقم به الحريري. هذا ما يقوله جنبلاط اليوم ويضيف هناك تحجيم لسعد الحريري، داعياً إياه إلى الحذر من محيطه، مشيراً إلى أن «ريفي والمشنوق لا يريدان لسعد الحريري أن يكون الزعيم السني الأوحد في لبنان».
تحذير جنبلاط من مشروع ريفي السعودي فكّ ارتباط صريح عن السياسة السعودية وانفتاح أكبر على حزب الله وإيران التي تقدّمت بملفها النووي مع الغرب إلى مكان بات اللعب في هامشه مباحاً عند جنبلاط مع تأكيده ألا يصبح لبنان منصة الهجوم على إيران، بالتالي فإنّ ترجمة السياسة الأميركية محلياً تتجدّد من بوابة جنبلاط بكل تجلياتها ومفاتيحها وتأكيد صريح على خلاف سعودي أميركي واضح حول سورية.