«مطر حمص»… حين تتفوّق الإنسانية على السياسة والرصاصة!

دمشق ـ آمنة ملحم

في مدينة أثقلت روحها وحشية القتل، ودمّرت معالمها همجية الحرب. في مدينة ربما أبرز ما بقي من ملامحها وذاكرتها تلك الساعة التي لطالما تباهى أهلها بخصوصيتها وروائع ذكرياتهم حولها. في حمص العديّة، لم يكن المخرج جود سعيد في رحلة ترفيهية استمرّت مئة يوم، بل كان في رحلة تثبيت جذور المرحلة، ومحاولة غرسها في الذاكرة كي لا تستطيع يد اقتلاعها على مرّ الزمان.

هناك، بين أنقاض أرهقت عيون كل من رآها على الشاشات، حطّ جود سعيد رحاله في وقت كان الإرهاب قد اجتُثّ من المدينة القديمة قبل أيام فقط، من دون أن يكترث وفريق عمله بالمخاطو التي قد تلحق بهم في سبيل فنّ آمنوا به، وعمل سينمائي قدّموا من أرواحهم وقلوبهم وأحاسيسهم الكثير له. فكانت رحلة حبّ وأمل ممزوجة بمطر الخير، الذي استمدّ منه أبطال الحكاية وسيلة عيشهم وعشقهم، فكان «مطر حمص».

«يوسف» محمد الأحمد ، و«يارا»، ربما لو التقيا في ظروف غير تلك التي جمعتهما تحت أنقاض مدينة هزّها الإرهاب واقتلع جذور عمارتها لما كانا ليلتفتا إلى بعضهما. لا سيما مع اختلاف وجهات النظر لديهما في الأحداث الدائرة في البلاد. ولكن ألم فراق أحبتهما وصفاء نسيج روحهما في معزل عن الرفاهية والدلال الذي كان «يوسف» يصف «يارا» به «يا مدلّلة»، جمعهما الحبّ في وقت لا مكان فيه إلا للألم والحزن، ليثبتا أن المحبة أقوى من أيّ سلاح قد يقف في وجه معتنقيها، وبها فقط تتجلّى معاني الانسانية بعيداً عن زيف السياسة وعبثية الرصاصة.

«يوسف» و«يارا» بطلان سينمائيان لحدوثة متخيّلة لكنها تقارب حكايات الواقع حبكة وصدقاً، هي حكاية تحت الأنقاض وفي لبّ الأحزان، ولكن لم يفارقهما الأمل بالبقاء على قيد الحياة والدفاع عن أرواح من أحبّا حتى اللحظة الأخيرة من رحلتهما المثقلة بدخان الحرب وضجيج المدفعيات وركام مدينة عشقها نبض القلب. فكان عود «يوسف» رفيقاً في المشوار وأنيساً في وحشة المكان الخالي حتى من أبسط سبل الحياة، مع الأب «حسين عباس» الذي مدّهما طوال الرحلة بقوة التمسك بالحياة، وكان سبيل خلاصهما في أكثر من محطة استوقفتهما، وكان بمثابة الرمق الأخير لهما، كما أعطت شخصيته نكهة وروحاً للحكاية امتزجت ما بين جدّية الأب ورسالته الروحية الأسمى وخفة الروح التي تبعث الضحكة ولكنها ضحكة ألم لا مرح على حال أقرب ما يمكن تسميته «المضحك المبكي» في بعض المواقف، حيث أبدع عباس في أداء هذا الدور الذي لاقى أصداء قوية خلال العرض الأول للفيلم مؤخراً، وكان حديث الكثيرين فور خروجهم من بهو صالة «سينما سيتي»، مغادرين حكاية «مطر حمص».

المؤسسة العامة للسينما المنتجة للفيلم، بالتعاون مع «شركة أدامس برودكشن» اعتادت دعم المخرجين الشباب. ففي كل إطلاق فيلم جديد، تدرك مسبقاً أنها أمام معضلة توفير الأماكن اللازمة للأحبة الكثر الذين يصرون على حضور عروض لمخرج شاب يمدّها بنكهة خاصة، فيمزج ما بين طعم حبه للسينما وشغفه بالحكاية المقدّمة مع إصراره على تقديم الأفضل بعيداً عن أيّ عوائق قد يراها البعض حجر عثرة في طريق أحلامهم. فلم يكترث صاحب «مرة أخرى» بأي منها وحتى روحه مستعدّ لبذلها في سبيل سينماه، وهذه المرة كان شركاء رحلته على السوية نفسها من العشق والتضحية، إذ يؤكد الفنان محمد الأحمد في حديث إلى «البناء» أنهم صوّروا الفيلم بعد خروج المسلّحين مباشرة من حمص القديمة، وعلى رغم الخطورة التي قد تصادفهم، من خلال العبوات الناسفة والألغام، أصروا على المغامرة التي قد يراها البعض ضرباً من الجنون. إلا أن الفن يجب أن يقدّم رسالته بكل الوسائل، كما أن تجربة «مطر حمص» تستحق تلك التضحية، والفنان يجب أن يتواجد بحكم مهنته في أيّ مكان كما أفراد الجيش العربي السوري.

الفيلم يشدّد على أن سورية ستعود، وأن مطر الخير سيملأ حمص من جديد.

الفنانة لمى الحكيم خرجت من العرض وشعور الغبطة والسرور يملأ قلبها، مؤمنة بأن الفيلم حمل الكثير من الرسائل الهامة والعواطف والأحاسيس الإنسانية. وترى أنها بحاجة إلى مشاهدته لأكثر من مرّة.

الطفلان الذين رافقا «يوسف» و«يارا»، «بيتر» و«جيسيكا» كانا أيضاً بطلين حقيقيين لم تقلّ مكانتهما عن مكانة أيّ بطل في الفيلم. وأظهرا ـ لا سيما «بيتر» ـ موهبة تستحق الالتفات إليها وتنميتها في عالم الفن والإبداع.

كاميرا جود سعيد حرصت طوال الفيلم على إظهار روح المكان، وجعلت منه بطلاً أساسياً ومن حوله تتحرّك الشخوص بالتصاق كبير به مع موسيقى تصويرية موفقة لم تقلّ أهميتها وتأثيرها عن الحوار. وبقيت أرجوحة الأمل المطلّة على حمص كلّها والتي جمعت حبّ البطلين ولحظات حكايتهما الأخيرة بين الدمار، أرجوحة لن ينساها كل من تابع «مطر حمص». فهي تحمل الأمل بمخاض جديد قد تشهده المدينة الجريحة، ولا بدّ أن تشهده مع أشخاص مهما اختلفت وجهات نظرهم وأفكارهم، لا يستطيعون سوى أن يحبوها.

«مطر حمص» المأخوذ عن قصة للصحافية سهى مصطفى ـ «وقت للاعتراف» ـ لم يعكس وجهة نظر أحادية، ولم يدع للسياسة أو الدين مكاناً بارزاً فيه، بل انحاز وبشدّة إلى الحبّ والإنسانية. فكان حبّ المكان وحبّ الحياة والتقاء الأرواح غايته الأسمى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى