في مقابر الكلام… الانتحار اللغوي يبدأ من مطار دمشق
نارام سرجون
قلّما تنتابني رغبة في أن أكون أمّيا لا أقرأ ولاأكتب ولا أفك الحرف ولا أفرّق بين العصا والألف الممدودة… إنه إحساس يشبه الشعور بالرغبة بالانتحار والتخلّص من ألم الجسد أو الروح… وأسمّيها الرغبة بالانتحار اللغوي والهلاك الفكري، لأنها ميول انتحارية تصيب القلم والورق والحرف، عندما تصبح معرفة القراءة نقمة، وعندما يصبح الوطواط محاضراً في ضوء الشمس وألوان قوس قزح… لكن بعض السياسيّين أو الكتاب يثيرون فيّ رغبة جامحة في أنني ما كنت تعلّمت يوماً ولم أذهب الى المدرسة… وأنني ما أتقنت القراءة يوماً… وليتني كسرت أقلام الرصاص التي علّمتني في طفولتي النحت على الورق… ولم أعرف معلّماً ولا معلّمة… ولم أحمل حقيبة كتب ولا دفاتر… وأتمنّى أنني ما تعلّمت رسم الحرف وزرع اللغة وجني الأدب لأنّ قراءة ما يقول هؤلاء السياسيون من هرطقة تجعل الأمية نعمة من الله والانتحار المعرفي بطولة وخلاصاً وقيامة كقيامة المسيح… ويتمنّى المرء بعد قراءة ما يقولون أو سماع هذياناتهم وتصريحاتهم أنه حمل عصاة لرعي الأغنام بدلاً من الأقلام… مثل كلّ الأنبياء.
ولن أبالغ إنْ قلت إنني أحسّ بعد أن أقرأ للبعض وأستمع للبعض أنني أتمنى لو كانت القراءة والكتابة جزءاً مني يقدر أن ينفصل عني وينتحر في أعماق أعماقي وينتهي مني… وأنتهي منه… إلى الأبد… وأتمنى عندما أرمق ساسة الثقافة العربية من المثقفين البراغماتيّين أن تشرب لغتي نقيع السمّ وتنتحر… أو أن تتردّى من أعالي أبراج كبريائي التي بناها العلم لي، ومن ذرى المعرفة التي أوصلتني اليها القراءة… أو أن ترمي ذاكرة لغتي نفسها على نصل سيف مصنوع من لغات العالم.
الشيخ سعد الحريري هو أحد أولئك الذين يحرّضون في الرغبة بالانتحار اللغوي والندم على كلّ ما أنفقت في طريق المعرفة… عندما يقف خطيباً بالناس… يعظ الناس ويشرح لهم أمور دنياهم ودينهم… وعندما يحلّل للناس في فقه السياسة… وفي علم الثورة والحرية والوطنية… وأصدقكم القول إنني في كلّ مرة أستمع اليه أحسّ أنه لا يتسبّب في كراهيتي للمفردات التي يستعملها بل أكره نفسي، لأنني لا أملك طريقة لأنقذ بها المفردات من الانتحار والموت عندما تدرك أنها لم تخلق لفمه، وأنها مجبرة على مجامعة الكذب وفقد عذريتها… ولكن المفردات التي تخرج من فمه تكرهه أيضاً لأنه أحد دواعش اللغة الذين يسفكون دمها… ويقطعون رأسها ويبيعونها في سوق النخاسة والسبايا… وكل ما يقوله سيذهب الى مقابر الكلام.
سأدعوكم اليوم الى مقابر الكلام… فالكلام أيضاً يحيا ويموت وله عظام ولحم وجلد… وتتكسّر عظامه وسيقانه، ويسير على عكازات… وقد يُصاب بالعمى والصمم وبُثور الجلد والحكة… ويمرض ويُصاب بالاسهال والأورام والأمراض العقلية… وهناك أمثلة لا تحصى على كلام أعمى بلا عيون وكلام مختلّ عقلياً ومجنون… وكذلك فإنّ الكلام عندما يموت تُحمل جثامينه إلى مقابر الكلام، أو تُلقى في الوديان والمهاوي كما يفعل القرويّون بحيواناتهم النافقة… ومقابر الكلام مليئة بالقبور التي دفن فيها العرب كلامهم كما يفعل القرويّون تماماً… فدفنوا كلامهم عن تحرير فلسطين… وكلامهم عن وحدة الأمة العربية… وعن خير أمة أخرجت للناس… وعن العدو الصهيوني… والتضامن العربي… ودفنوا فيها الى جانب حق العودة لفلسطين العراق الموحّد وليبيا والسودان واليمن وسورية ولبنان… ودفنوا فيها «وامعتصماه»… مع المعتصم والمرأة التي استغاثت به في قبر واحد جماعي كما تفعل جبهة النصرة في سورية بضحاياها… وكما تفعل داعش في العراق.
ولكن في مقابر الكلام هذه الأيام قبر حديث للعبارة التي رحلت غماً وغماً، وهي من عائلة «الأيام المعدودة» وخصّ بها الرئيس الأسد… وبجانبها قبر فيه عبارة «الحرب الأهلية السورية»… والى جوارها قبر لعبارة «الثورة السورية السلمية»… وقبر «تقسيم سورية»… وإلى الأعلى منه في تلك المقبرة قبر طويل لعبارة طويلة اسمها «الحلم العثماني السلجوقي لخلافة المسلمين»… وهناك قبر مردوم لراحل اسمه «مجلس الحكم الوطني السوري» الى جانب قبر عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام»… وهناك قبور لذرية «ساعة الصفر» وأبناء عمومتها وأخوالها… وهناك تحت ظلال الشجرة الملعونة للإخوان المسلمين بثمارها من جبهة النصرة وداعش قبر منبوش لكلمة «انشقاق» وقبر لا يزال رطباً لعبارة «الجيش الحر»… وأستطيع في جولتي أن أرى قبوراً تفتح الآن لعبارات كثيرة ترتفع حرارتها بسبب الحمى والمرض العضال… مثل جبهة النصرة… وداعش.
حفارو قبور الكلام لم يعودوا قادرين على مجاراة موت الكلام كما هو موت العراقيّين في جبل سنجار وبغداد والليبيّين في شوارع ليبيا… كأنما ضربت جائحة أو طاعون الكلام مدن اللغة فتناثرت جثث الكلام على أرصفة الورق… وصارت توابيت الكلام تتوالى… وتصل المواكب تلو المواكب… والجنازات تلحق بالجنازات… وكثير من الكلام الذي مات يأتي محمولاً على أكتاف من قالوه وحملوه وخرج من أرحامهم وأفواههم.
آخر الداخلين الى المدفن الشيخ سعد الحريري وعلى كتفه نعش ثقيل… ليس في النعش رفاة رفيق الحريري طبعاً الذي هجر قبره ليستريح من كثرة ما نبشته لجان التحقيق ونقلت جثته ليدور على محاكم العالم ومتاحف الجريمة الدولية كما نقلت مومياء توت عنخ آمون للعرض… وقد وصل العالم لمعرفة سبب موت الفرعون الصغير «توت عنخ آمون» بعد سبعة آلاف سنة على حادث اغتياله، ولكنه لن يعرف بعد سبعة آلاف سنة قاتل «رفيء» الحريري… ولن نعرف إنْ كان التفجير الذي نسف الحريري كان فوق الأرض أم تحتها إلا يوم الحساب.
الشيخ سعد الحريري يحمل على كتفه نعش وعده بأنه «لن يعود الى بيروت إلا من مطار دمشق»… وخلع جاكيتته كما يخلع الأعراب عقالاتهم عند الغضب وطلب الثأر وعندما يعدون بالانتقام… فلا يعود العقال ما لم ينفذ الوعد والدم… ولكن فوق النعش الذي دخل على كتف الحريري يستلقي جاكيت سعد الحريري التي خلعها تحدّياً كما يوضع طربوش أو عمامة المتوفى.
توفي وعد الحريري وتوفيت عبارته التي ظلّت في السرير موصولة بالحقن والمصول ثلاث سنوات ونيّف… ونقل لها دم آلاف السوريين واللبنانيين لتحيا من أجل أن يعود الحريري الصغير من مطار دمشق… ولكن قدر الله لا رادّ له وإرادة الشعب السوري ودمشق من إرادة الله… وقد مرّ عزرائيل على بيت الحريري… وقبض روح العبارة الأعز على آل الحريري وترك أهلها مفجوعين عليها ومكلومين لموتها… وأخشى ان يطلبوا تحقيقاً دولياً ومحكمة دولية في سبب اغتيال الرحلة الثمينة «لا عودة الى بيروت إلا من مطار دمشق»… فهذا عهدنا بهم… بل كلي يقين انّ التحقيق في موت «رفيء الحريري» لم يعد مهمّاً كما هو موت الرحلة الأثيرة على قلب المهاجر… الذي تاه ثلاث سنوات قبل أن يجد أنه يمكن ان يدخل الى بيروت من كوكب المرّيخ لكنه لا يقدر أن يمرّ بمطار دمشق.
هذه العبارة القتيلة هي ضحية أخرى من ضحايا الحريرية السياسية… فقبل ذلك لم يتعلّم هذا الفتى من الدرس الأول أنّ الكلام ليس حجر نرد ولا طاولة قمار ولا عجلة روليت… فهو اتهم السوريّين يوما بقتل أبيه وأقسم على ذلك… ثم قتل الكلام الذي قاله وحمل جثته ودفنه في قصر الشعب في سورية أمام الرئيس الأسد وهال عليه التراب… وهو اتهم المقاومة اللبنانية أنها تورّطت في دم أبيه ثم قتل كلامه ودفنه ورأيناه يذرو التراب على جسد الكلام الذي قاله… وقال إنه جاء لإنقاذ السنة في لبنان من الظلم، ولكنه قتل تعهّده وكلامه وأخذ السنة في لبنان الى محرقة طائفية والى مغامرة في سورية ليموتوا في عرسال والقلمون ويبرود والقصير.
هل يتعلّم سعد الحريري درساً أنّ دفن الكلام اثر الكلام وزيارة مقابر اللغة كلّ عام لدفن العبارات لاتليق بالساسة؟ وهل يفهم هذا المراهق السياسي أنّ من يقتل الكلام يقتل الناس أيضاً؟ وهل يتعلّم سعد الحريري أنّ كلام الساسة الكبار مثل الذهب العتيق لا يصدأ ولا يحترق؟ وهل يتعلّم سعد الحريري أنّ الكلام ليس قطيعاً من الأغنام يسوقه ويهش عليه بعصاه دون اعتبار لمشاعر القطيع؟ وهل سيدرك يوماً أنّ ضروع الكلام لا تحلب ولا تصحّ فيها فتوى إرضاع الكبير؟ وأنه يمكنه بماله أن يشتري ما يشاء من الطوائف والمذاهب والسياسيّين والمقاتلين الاسلاميّين والأحزاب والقصور ومحطات الإعلام والجرائد والفضائيات والمذيعين والرؤساء الفرنسيّين والرؤساء غير الفرنسيين… لكنه لا يقدر على أن يشتري الحياة لكلمة واحدة ليس في وريدها دم الحقيقة… وليس في شرايينها دم الشرق… وأنه مهما دفع من مال فإنه لا يقدر أن ينقذ عبارة واحدة من موت محتّم طالما أنها مصابة بالورم والسرطان منذ لحظة ميلادها.
الساسة الكبار لا يقتلون الكلام لأنهم لا يلقون بالكلام على عواهنه، ولا يرمون المفردات الى التهلكة والمحرقة كما يرمى شباب أهل السنة الى المحرقة الطائفية بلا حساب.
هذه المرة عاد سعد الحريري الى بيروت كما في كلّ مرة خائب الوعد والعهد وقد سئمه الكلام ونفرت منه اللغة واعتادت خيباته المذكرات… ولكني سأقول له كمواطن سوري كلاماً لا يموت ولا يدفن:
إنني لن أذهب الى بيروت من مطار دمشق ولن أدخل دمشق من بوابة بيروت لأردّ على تخرّصاتك بالمثل… لكنني سأذهب الى بيروت مشياً على الأقدام من دون أن يرافقني سايكس ولا بيكو لأول مرة… وأنا لن أخلع جاكيتي ولا معطفي ولا عباءتي ولا عقالي… بل سأخلع خطوط الجغرافيا بيني وبين بيروت… وسأمحو بالممحاة نقطة المصنع.
السوريون لا يدفنون الكلام… ولا يقتلون العبارات ولا العهود… ولم يتعوّدوا زيارة مقابر الكلام… فليس لهم في مقابر الكلام قبر واحد فيما كلّ العرب يدفنون كلام العرب وكلام الرسول وكلام الله وكلام الوطن…
هل يقدر سوري أن يدفن عبارة «سورية ياحبيبتي» يا سعد؟ وهل يقدر سوري أن يدفن عبارة «سورية الله حاميها»؟ يا سعد.
ان الانتحار اللغوي والسياسي يبدأ من حلم رحلة الى بيروت… عبر مطار دمشق.