خطاب بلغة وطن
سناء أسعد
أمام أيّ قراءة جديدة لمستجدات وتطورات الأحداث الجارية، لا تكمن أهمية التقييم في فصل الأمور وتوسيع حجم المسافات في ما بينها… بقدر ما هي حصلية لربط كلّ نقطة وفاصلة وإشارة استفهام وعلامة تعجّب بكلّ ورقة من أوراق دفتر الأزمة السورية منذ بدايتها، لأنّ الحرب التي تدور على الأرض السورية بمؤثراتها كافة. لم تكن حرباً بمدار واتجاه واحد، ولا بفلك وبمرحلة واحدة، وإنما كانت بمراحل عديدة واتجاهات مختلفة ومنعطفات وتقلبات كثيرة لم تشهدها دولة في العالم…
وسط النيران التي تشتعل على أكثر من جبهة محلياً وإقليمياً ودولياً، سياسياً وعسكرياً… يكثر الحديث عن تغيّرات تلوح في الأفق بالنسبة لسياسة كّل من آل سعود وأردوغان اتجاه الأزمة السورية، كما أنّ التشكيك في مطلق أهمية الدور الروسي دون تراخٍ أو مرواحة لحسابات روسية بحتة يكاد يتحوّل إلى اتهامات بأعلى سقف لها عند أيّ مطبّ، أو فرملة لعجلة الأحداث…
هذا التشكيك يتبناه فريقان، الأول: هو الفريق الذي كان يشكك بجدية الدور الروسي منذ بداية الأزمة، ويرمي أيّ تدخل لروسيا في سورية في خندق المصالح البحتة لها تارة، أو في خندق التبعية والوصاية تارة أخرى، والذي يتمّ حصره في بوتقة التنافس الروسي الأميركي في سباق كبير لوصول أحدهما إليه أولاً.
هذا الفريق لم تنبثق شكوكه من محض الفراغ، وإنما من مؤشرات ودلالات عديدة، لم يكن بالإمكان تجاهلها دون طرح العديد من الأسئلة، من مرحلة الفيتو وصولاً إلى عاصفة السوخوي، فالأمر سيان هنا عند هذا الفريق، فالفيتو الذي لم يكن كافياً أمام ما كان يجري في الميدان، تقابله الآن عاصفة السوخوي التي صارت غباراً في مهبّ رياح الهدنة المشؤومة… وجليد المفاوضات العقيمة… حيث لا تتوقف كلّ من موسكو وواشنطن عن تراشق التهم في ما بينهما ضمن اطار الاتفاقيات الكبرى التي أبرمت بأطروحات مشتركة بين الأخيرتين… سواء أكانت الهدنة أو المفاوضات، فالفشل كان حصيلتهما، فلا المفاوضات أثمرت ولا الهدنة كذلك، بل على العكس كانت الهدنة سبباً لتقوية تمركز وجهوزية المجموعات الإرهابية ولإمدادها بأسلحة أكثر تطوراً عبّر الحدود التركية والسعودية، الأمر الذي تغاضت عنه أميركا وتجاهلته… على الرغم من أنّه أهمّ الشروط التي كان يجب أخذها بعين الاعتبار لإنجاح ما تمّ الاتفاق عليه…
أما الفريق الثاني: فهو الذي على يقين كامل بأنّ روسيا هي الحليف الصديق، ولو كانت هناك مجموعة من المصالح التي تتطلب من روسيا التواجد على الأرض السورية يستحيل لهذه المصالح أن تفتح أبواب التبعية وتغلق أبواب السيادة، لأنه على اليقين الأكبر بأنّ حكومته بقيادة الرئيس بشار الأسد لن تقبل إلا بسورية موحدة ذات سيادة واستقلالية كاملة متكاملة على كافة الأصعدة مهما كان الثمن ومهما بلغ حجم التضحيات. ولكن هذه الثقة لم تغيب الاستمرارية الدائمة في الطلبات المُلحّة لضرورة حسماً عسكرياً أمام هذا الانغماس في أوحال المماطلات الغامضة، والمهل المحسوبة من عمر السوريين ومن دمائهم وأوجاعهم التي صارت جدولاً زمنياً وأوراق وحقائب… ومؤتمرات وحملات…
في خضمّ هذه الأحداث وتزاحم الشكوك والانتظار الطويل على حافة الترقب ومشارف التحوّل يطلّ الرئيس بشار الأسد ليلقي خطاباً في الدور التشريعي الثاني في مجلس الشعب… أشاد فيه بأهمية دور الحلفاء روسيا وايران والمقاومة إلى جانب الجيش السوري في الانجازات الكبيرة التي تحققت على الأرض وقلبت الموازين… عبّر توجيه الشكر لمواقفهم الثابتة ضمن إطار المحافظة على وحدة واستقلالية كلّ دولة في ممارسة سيادتها، كهدف أولي وأساسي لهذا الحلف المشترك، لتدمير الهيمنة الأميركية، وتمزيق المشروع الوهابي، ووضع حدّ لشيطنة السلطان العثماني أردوغان…
على الرغم من أنّ الرئيس الأسد كان واضحاً بسيطاً غير متكلّف، وطمأن السوريين للجانب الروسي بعيداً عن المعمعات الإعلامية، في إشارة إلى عدم وجود أيّة خلافات وانقسامات أو املاءات مفروضة، بين روسيا وسورية من جهة، ولا تراجع عن مواقف، وتقديم تنازلات لتبادل مصالح أخرى بين واشنطن وموسكو من جهة أخرى…
تمّت قراءة خطاب الأسد من البعض عن الهدنة والمفاوضات إلا أنه نسّف المساعي والجهود الروسية مع أميركا التي باءت بالفشل… وليس هذا فحسب، بل يُضاف إليه أنّ الأسد ينسف الحلّ السياسي الذي تسعى إليه روسيا دائماً بكليته وعدم صيرورته، إذا ما كان خارج بنود ورقة المبادئ التي قدّمها الدكتور بشار الجعفري للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، دون الحصول على أيّة إجابة، إضافة إلى اتهامه لوفد المعارضة بالخونة، وتطرّقه للفراغ الذي أحدثه إصرار ذلك الوفد على جملة الشروط الغير متوازنة ولا المنسجمة، والتي كانت تتصدّر جولات المفاوضات حتى قبل انعقادها بشكل جدّي وكامل…
ليس بالأمر المفاجئ أن تختلف القراءات والترجمات لخطاب الرئيس الأسد، وأن يكون محط جدل ونقاش كبيرين ،لأسباب عديدة أهمها…..
أولاً: أنّ الأسد لم يلق خطاباً عادياً في ظروف طبيعية، وإنما كان نتاجاً لتحدٍّ كبير في ظروف استثنائية.
ثانياً: درجات الثقة والارتياح العالية التي ميّزت خطاب الأسد عن سابقاته كانت تبدو واضحة على ملامح وجهه وحركات يديه بالإضافة إلى نبرة صوته، وهنا كثرت الأسئلة عن المعطيات التي استند إليها وبنى عليها الأسد ثقته الكبيرة هذه، وكأنّ المعركة في مراحلها الأخيرة، وبالرغم من أنّ الوقائع على الأرض متشابكة ومعقدة كثيراً، كما أنّ الرقة تكاد تتحوّل إلى حلبة صراع ومحطة سباق عنيف، بين الجيش السوري وروسيا من جهة وبين قوات سورية الديمقراطية وأميركا من جهة أخرى…
خطاب الرئيس الأسد لم يختصر مشهد الأحداث في سورية فقط… بل كان خطاباً بلهجة الوطن الذي كان وسيبقى حراً أبياً.
بلهجة الدم السوري الطاهر الذي سال على الأرض السورية دفاعاً عن وحدتها وكرامتها، بنكهة العرفان بالجميل لملاحم البطولة والصبر والصمود التي تميّز بها أبطال الجيش العربي السوري، فكان خطاباً تاريخياً برسائل عديدة أهمّها.
أولاً: لا تفاوض في نطاق التنازل عن مبادئ لو تمّ التنازل عنها مسبقاً، لما كانت المؤامرة ولا كانت الآن حبراً مصبوباً في ورقة على طاولة مهجورة…
ثانياً: فشل المفاوضات والهدنة… ليس اتهامات أو نسفاً للجهود الروسية، فالأسد لم يقل أنّه تمّ فرضهما على الحكومة السورية، أو أنّ الأخيرة تعرّضت للضغوط فوضعّت تحت الأمر الواقع مضطرة للقبول والموافقة، لأنّ من يتمسك بالسيادة لا يمكن أن يتقبّل الإملاءات، وإنما المقترحات جميعها كانت تطرح بالاتفاق وبالإجماع وليس بالإجبار والقوة، على الرغم من قناعة الحكومة السورية وإدراكها الكامل باضمحلال النتائج الايجابية أمام فيضان السلبيات التي تتكاثر حتى اليوم في محيطها… ولكن! لايمكن التغاضي عن مسار الحلول المطروحة، ولا سيما أنّ الأزمة تشعّبت وتفلتت من كلّ حدود.
ثالثاً: لا قنوات مفتوحة لإعادة النظر في صياغة العلاقة مع أردوغان من جديد، فالسياسة التي قادت إلى الهدنة وإلى المفاوضات لا يمكن أن تفتح الطريق المغلقة في وجه السفاح الفاشي الذي يعيش أيامه السياسية الأخيرة، أمام هذا التخبّط الواضح الذي تشهده تركيا على أكثر من صعيد، سواء داخلياً أو خارجياً نتيجة جنونه وحماقته، حتى كادت سجونها تمتلئ بالإعلاميين والصحافيين المعارضين لسياسة ردوغان.
رابعاً: هناك حملة عسكرية ضخمة تعدّ عدّتها لتحرير مدينة حلب التي ستكون مقبرة لأحلام وأوهام السلطان العثماني.
خامساً: لا لدستور طائفي ولا تسامح مع من يريد تقسيم سورية، وإنْ لم نكن هواة حروب، ولكن عندما تفرض علينا لن نخرج منها الا منتصرين انتصاراً كاملاً بتحرير كلّ شبر من أراضي سورية..
وأخيراً… شكراً روسيا وايران والمقاومة، أما كلمات الشكر فلا تفيكم حقكم أيها الأبطال… أبطال الجيش العربي السوري، فلولاكم ولولا صمودكم، لما كنا ولكانت سورية أثراً بعد عين.