المفكر العربي في منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية: 1979 – 1980
د. جورج جبور
1
باستثناء عبدالرحمن عزام، أول أمين عام لجامعة الدول العربية ونشير اليها ب: ج د ع فإن كل المصريين الذين تبوأوا منصب الأمانة العامة كانوا من السياسيين الذين لم نعرف لهم مواقف سياسية وقومية متميزة عن موقف حكوماتهم. ثم إنه الوحيد الذي استقال.
أما الشاذلي القليبي فقد عمل، قبل توليه الأمانة العامة، في حقل الإعلام والثقافة. كانت له مواقف فكرية لم تتميز، على نحو خاص، بالحماسة للعروبة وللعمل العربي المشترك.
لمناسبة الذكرى الرابعة عشرة على رحيل الدكتور قسطنطين زريق، المفكر العربي الكبير، أحببت العودة إلى بداية فكرة عمرها 35 عاماً، دافعت عنها بقوة في حديث مع الرئيس حافظ الاسد، لدى مباشرة نقل مقر الجامعة من مصر إلى تونس عقب توقيع معاهدة السادات بيغن.
2
درج التقليد في الجامعة على إسناد منصب الأمين العام إلى مرشح مصر التي درجت بدورها على ترشيح وزير خارجيتها. قيل في البداية: أن يكون الأمين العام مصرياً مطلوباً لضرورة الإقلاع بالجامعة. يسهل الإقلاع إن كان الأمين العام من دولة المقر. أول من تولى المنصب مناضل عربي من مصر له وجوده الفكري إلى جانب وجوده النضالي والسياسي. لن أخوض في تفصيل سيرة عبدالرحمن عزام. أكتفي بملمحين. ثمة كتاب ضخم عنه بالانكليزية لم أشاهد مثيلاً له بالعربية، وقد يكون له مثيل لم أطلع عليه. إلا أن من المرجح أننا لم نبذل لأمين عام العرب الأول ما ينبغي له من عناية. أما الأمر الثاني فظنيٌ لم أتأكد منه قيل لي أنّ عزام وصف أول اجتماع للجامعة شارك فيه بأنه حلف فضول جديد. ما أنا متأكد منه أن الدكتور عبد الله عبد الدائم، طيب الله ثراه، أهداني ذات يوم مقالاً لعبدالرحمن عزام عن ذلك الحلف الذي أصفه بدءاً من عام 1993- بأنه أول هيئة للدفاع عن حقوق الانسان في العالم إلى أن يثبت العكس.
استمر التقليد بإسناد الأمانة العامة لمصري مع تعديل في شخصية الأمين العام. غاب الجانب الفكري والنضالي من شخص الأمين العام الذي كان وزير خارجية مصر. خضعت الأمانة العامة للرتابة الديبلوماسية. أما المفكرون فقد استقر بهم المقام في معهد الدراسات العربية العليا بقيادة ساطع الحصري الذي وجد مناسباً أن يستقيل بعد تجربة له في المعهد لم تطل كثيراً. بدل أن يقود المفكرون الجامعة ومن ورائها الدول العربية، أصبحوا أساتذة يميزون الطالب الناجح من زميله الراسب.
ثم كان ما كان من أمر نقل المقر من القاهرة إلى تونس، وليست تونس كمصر ثقلاً عربياً. بدا لي ان في الامكان الخروج عن تقليد ان يفوز بمنصب الأمانة مرشح دولة المقر. بدا لي أن الجامعة في حاجة الى جرعة فكرية في حقبتها الجديدة. بدا لي أن إسناد المنصب إلى مفكر عربي لا يشترط فيه ان يكون من دولة المقر امر مفيد. بدا لي ان التحالف بين بعثيي سورية والعراق يستطيع تحقيق النقلة، وهو تحالف لم يدم لسوء الحظ والتصرف الا شهوراً قليلة. رتبتُ هذه الافكار في مذكرة تُرسل الى مدير مكتب الرئيس. يتولى المدير أمر المذكرات إما بقراءتها هاتفياً للرئيس حرفياً أو ملخصةً، ومن ثم إرسالها اليه إن أُمِرَ بذلك، أو بإهمالها من دون أن يكون قد اطلع على محتواها الا كاتبها. شَفَعتُ الافكار «الانقلابية» بتعداد أسماء شخصيات فكرية رأيتها مؤهلة للمنصب، يتقدمها اسم قسطنطين زريق، وتضم، في من تضم، منيف الرزاز وسعدون حمّاده وعبدالله عبدالدائم والمصريَين لبيب شقير ويحيى الجمل. أرسلتُ المذكرة الى مكتب الرئيس، وسريعاً ما كان الرئيس يهاتفني ليتباحث معي في الأفكار والأسماء. طال الحديث حتى لكأنني حسبتُ أنه وافق على الافكار، وأنه سيختار من قائمة الاسماء، وأنني قد أُبَلَّغُ قبل غيري بالاسم المختار، وأن أمور الجامعة ستكون في عهدة مفكر قومي عربي بنى شهرته من التبشير بالوحدة فإذا به الآن يُوَلَّى مهمة قيادتنا إليها. دامت سعادتي ساعة. هاتفني إثرها مدير المكتب قائلاً أنه يود إبلاغي ما أُمِرَ بإبلاغه: تلقى رئيسنا اتصالاً من الرئيس بورقيبة الذي حدّد موقفاً لا تراجع عنه. لا تقبل تونس بأقل مما كان لمصر. والأمين العام الجديد سيكون الشاذلي القليبي. انتهى البلاغ. لا أعرف إن كان الرئيس السوري اتصل بزميله التونسي ليبحث معه ما بحثه معي. أم أن القرب الزمني بين الهاتفين اللذين تلقيتهما كان محض صدفة. ربما أن الرئيس التونسي كان في ذلك اليوم يهاتف الرؤساء العرب ليعلمهم باسم القليبي. لكنني أدركت أنني سجلت سابقة. بحثت مع رئيس عربي له حضوره الباذخ أن يكون قسطنطين زريق أميناً عاماً لـ «ج د ع». في نقلة تعلي من شأن الفكر والجامعة معاً. وكان جو البحث مرضياً.
3
وصلتني بعد حديث الهاتفين بفترة قصيرة كتب القليبي. قلبتها. أمعنت النظر بها. لم يفح منها عطر العروبة. قيمتها الفكرية أَميَل الى الوسط مستوى. يجتاز امتحان «المفكرية» بدرجة مقبول. إلا أنّ قيادة العرب من موقع الأمانة العامة كانت من نصيبه. هو الشخص الأعلى المتفق عليه من طرف الملوك والرؤساء. توجوه أول العرب المتفرّغين للعروبة. حُظيتُ بدعوة منه الى اجتماع يبحث في أمور الإعلام العربي في العالم. كان ذلك بعد توليه منصبه بأسابيع. سألني أن التقيه في مكتبه. وأشهد أنه مهذب، وأنه سليم النية إزاء العروبة، وأنه مصمم على النجاح في عمله. وأشهد على أمور أخرى أيضاً. واكتفي.
وراقبت عمله من موقعي. كان مؤتمر قمة تونس بداية للأمين العام الجديد، وجاءت كالمتوقع من جديد على العمل. وهو ليس سيد العمل على كل حال. السيادة على العمل لاصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو. توالت أعمال أو لا أعمال الجامعة كالمعتاد. كأن معاهدة السادات بيغن لم تأخذنا الى مكان جديد غامض المعالم.
واقترب موعد قمة عمان. في الذهن قسطنطين زريق اميناً عاماً. في الواقع حرب عراقية ايرانية تنذر بدمار الطرفين. في عالم العرب مصالح تصاغ في هيئة ايديولوجيات متصارعة. بخط اليد في باريس سلّمت نبيل خوري، في منزل الصديق بطرس ديب، رحمهما الله، مقالاً عنوانه: «لو كنت مكان الشاذلي القليبي وأمامي مؤتمر قمة عربي!» ظهر المقال على صفحتين في صدر مجلة «المستقبل» الاسبوعية المحتجبة التي تحمل تاريخ 10 تشرين الثاني 1980. أنظر الى المقال بعد 34 عاماً فأبدو لنفسي وكأنني حاولت التماهي مع زريق. كأنني تخيّلت ما كان يمكن ان يقوم به، لكنني لم أشأ ان اثقل عليه بنسبته اليه من دون استشارته. نسبته الى نفسي. وهو لي في كلّ حال، وربما انه لا يروق بكليته للمفكر الكبير. الا انه يطيب لي في ذكرى الرحيل ان اورد اسطراً مما قلت، مما تخيلت ان زريق، اميناً عاماً للجامعة، كان سيقوم به.
مما يمكن للأمين العام للجامعة فعله:
«انشاء جمعيات غير حكومية في الاقطار العربية تهتم بالجامعة وتتابع نشاطاتها… ومنها، وهو الاهم، انشاء روابط مهنية متخصصة في الحقول التي يطلق عليها اسم «علوم السياسة» تضع اسساً لاستراتيجية قومية عربية تقود الى الوحدة. ونشير شخصياً على الامين العام للجامعة ان يتعهد بنفسه انشاء روابط لعلماء السياسة وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد وان يتعهد بنفسه حماية حرية هذه الروابط واعضائها بمواجهة نظم الحكم القطرية…».
4
بعث السرور في النفس اقتراحي إسناد الامانة العامة لمفكر عربي ولاسيما ان هذا المفكر المقترح هو زريق. لكنني لم أبح، في حينها، بما فعلت، حفاظاً على خصوصية علاقة عمل مع رئيس. ثم كان ان عادت الجامعة الى مصر، وعادت الي ذكرى محاولة دفع الجامعة باتجاه ان يتولى زمامها مفكر، وألا يكون بالضرورة من مصر. نشرت في الاسبوع الادبي التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق مقالاً كشفت به ما كان. أرسلت المقال الى الدكتور قسطنطين الذي لم اكن قد التقيت به قبلاً إلا مرتين. وأتاني جوابه شاكراً: أعطيتني فوق ما أستحق. أظن انني ما أزال احتفظ بالرسالة. وأختم هذه الأسطر بتساؤلين: هل كانت المحاولة ساذجةً، أم أن الحال العربي كان أفضل، بما لا يُقاس، من الحال الراهن؟ والجوابان بسيطان: نعم ونعم.
عضو الهيئة الاستشارية لمكتب الثقافة القطري في سورية، وسابقاً أستاذ ورئيس قسم البحوث والدراسات السياسية والقومية في معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة في منظومة جامعة الدول العربية.