عملية تل أبيب… الانتفاضة حيّة ولم تمت

راسم عبيدات

في ذورة الجدل واستطلاعات الرأي بأنّ الهبّة أو الانتفاضة الشعبية التي تدخل شهرها الثامن في طريقها إلى الخفوت والموت التدريجي، جاءت عملية الشهيد أبو سرور في أحد الباصات الصهيونية قبل حوالي خمسين يوماً في المنطقة القريبة من مستعمرة أبو غنيم، لتقول بأنّ حالة الخفوت لا تعني موت الانتفاضة أو قرب نهايتها، بل هي تنتقل من طور إلى آخر. وتعلو حيناً وتخبو حيناً آخر ارتباطاً بما يجري على الأرض، وتصاعد حالة القمع والتنكيل والعقوبات الجماعية التي يتخذها ويمارسها الاحتلال بحق شعبنا الفلسطيني، وكذلك واضح أنّ الاشتباك الانتفاضي يأخذ أشكالاً متعدّدة ويرتقي إلى أطوار أعلى، كلما نضج الفعل الانتفاضي وتراكم في أرض الواقع، ولعلّ عملية الإنتقال إلى النار التي قام بها الشهيدان مخامرة في قلب تل أبيب شكلت تطوراً نوعياً في العمل الإنتفاضي الفلسطيني، من حيث الجرأة والإعداد والتخطيط والتنظيم والتوقيت والمكان، فهي وقعت أو نفذت في قلب تل أبيب وبالقرب من وزارة الحرب الصهيونية، وما يحمل ذلك من معاني ومضامين ودلالات التحدّي لليبرمان وزير جيش الإحتلال ورئيس «الشاباك» الصهيوني، ليبرمان هذا المتبجّح دوماً بأنّ القوة وحدها هي من تكسر وتحطم وتهزم إرادة المقاومين والعرب والفلسطينيين، كيف لا وهو من دعا إلى تدمير سدّ أسوان وتحويل غزة إلى ملعب كرة قدم وسنّ قانون إعدام الإسرى الفلسطينيين؟ بالإضافة إلى اجتياح قطاع غزة وتصفية قادة المقاومة هناك، وضمّ مناطق س من الضفة الغربية لدولة الاحتلال.

هذه العملية أتت في ذورة الفرح الغامر الذي يعيشه اليمين الصهيوني، بتعيين ليبرمان وزيراً للحرب وفشل مؤتمر باريس الإقليمي، والتطور اللافت في العلاقات الروسية الإسرائيلية، وهي بذلك شكلت ضربة قوية لنظرية الأمن الإسرائيلي والسياسة الإسرائيلية، وهذه العملية تداعياتها وآثارها ستبقى قائمة لفترة طويلة، والإجراءات والقرارات الصهيونية سواء «للكابينت» المجلس الأمني الإسرائيلي المصغر أو لنتنياهو رئيس الوزراء ووزير حربه ليبرمان وجهاز «الشاباك»، التي اتخذت بعد هذه العملية من حصار وتنكيل بأهالي بلدة يطا، من حيث عمليات الدهم والتفتيش المترافقة مع العبث والتخريب، والإعتقالات وسحب التصاريح ومنع التنقل والحركة، وكذلك التمهيد لهدم بيتي الشهيدين، وسحب التصاريح من عشرات الآلاف من فلسطيني الضفة، ومنع قدوم المصلين من غزة إلى القدس في يوم الجمعة وغيرها.

كلّ هذه العقوبات الجماعية والإجراءات والقرارات الإسرائيلية جاءت لتقول بمحدودية القوة الإسرائيلية، وبأنّ تلك العقوبات لا تخرج عن النسق المتوقع، وبصرف النظر عمن يقود السياسة الأمنية الإسرائيلية عاقل مثل يعلون أو مجنون مثل ليبرمان.

الإحتلال بأجهزته الأمنية وبكلّ ما يمتلكه من خبرات وأجهزة تجسّس وتكنولوجيا متطورة، وعمليات تنسيق أمنية مع السلطة، بدا غير مسيطر على الوضع أو لا يمتلك المعلومات الكافية عن الوضع الأمني في الضفة الغربية، وبأنّ ما يطلق عليه بعمليات «الذئاب» الفردية والعفوية، هناك عجز في رصدها ووقفها أو إفشالها، حيث النسبة الكبيرة تنفذ، بعكس العمليات التي أتت في إطار تنظيمي، فهي تمكن من إحباط معظمها قبل تنفيذها، فأبو سرور رغم الحديث عن كونه عضواً في كتائب القسام، ولكن المبادرة للتنفيذ لم تكن بقرار تنظيمي كما ظهر لاحقاً، وكذلك عملية ابنَيْ العمّ مخامرة، فعمليتهما تحتاج إلى جهد من حيث تصنيع السلاح والتدرب عليه ونقله للداخل الفلسطيني 48 ورصد وتحديد المكان أيضاً، كلها تطرح أسئلة أمام الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المستنفرة أصلاً، من طراز هل هذا يعني انتقال الهبّة الجماهيرية إلى تطور وشكل نضالي أعلى؟ وهل سيشكل هذا العمل الفدائي نموذجاً سيحتذي به أخرون، والمسألة فقط مسألة وقت؟أم أن ما حدث عابر ولا يمكن تعميمه؟

هذه العملية شكلت الاختبار الأول بالنار لـ»ليبرمان»، والذي قال بأنّ الردود على مثل هذه العمليات، لن تكون بالأقوال بل بالأفعال في الميدان، وفي هذا السياق أصدر قراراً بمنع تسليم جثث الشهداء الذين يهاجمون أو يقتلون مستوطنين وجنود، رغم أنّ وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد أردان،عقب عملية دفن الشهيد علاء أبو جمل اتخذ قراراً بعدم تسليم جثث الشهداء، تحت حجج وذريعة أنّ أكثر من 200 مواطن من أهل جبل المكبر هتفوا للشهداء على مقبرة جبل المكبر، رغم قرار محكمة «العدل» العليا الصهيونية، التي ألزمت شرطة الاحتلال والأجهزة الأمنية بتسليم جثث الشهداء وفق شروط التزم بها أهالي الشهداء قبل شهر رمضان الفضيل.

وكذلك، فإنّ ردود الفعل لا تنحصر في الجانب الميداني، بل تتخطاه إلى جوانب سياسية محلية وإقليمية ودولية. إذ لا يمكن تجاهل محاولات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الإقناع بأنّه يرغب في السلام مع المحيط العربي على أرضية مبادرات إقليمية، سواء كانت مصرية أو سعودية كنوعٍ من الردّ على المحاولات الدولية لتحريك التسوية. ولهذا السبب، فإنّ الكثير سوف يُعتمد على الإجراءات التي سيقدم عليها الجيش الإسرائيلي.

المعلق السياسي لـ «يديعوت»، ناحوم بارنيع، كتب أمس أنّ «الشائعات عن انطفاء الانتفاضة الحالية كانت سابقة لأوانها. فالبندقية المصنوعة محلياً حلت محلّ سكين المطبخ، لابسو البدلات حلوا محلّ فتيان المدارس، ولكن «الإرهاب» لا يزال هنا فتاكاً كما كان دوماً». ولاحظ بارنيع أنه «إذا ظنّ احدٌ ما أنّ تولّي افيغدور ليبرمان وزارة الحرب سيجلب معه فعل سحرٍ يحّل المشكلة، فعليه أن يعيد التفكير. شيءٌ واحدٌ فقط تغيّر في الطقوس التي تُرافق كلّ عملية: هذه المرة، لن نسمع ليبرمان يتهم الحكومة بالعجز والاستسلام للإرهاب».

المعلقون السياسيون والكتاب الإسرائيليون قالوا بأنّ «انخفاض «العنف» في الشهور الماضية حَدث بفضل مزيجٍ من السياسة الحازمة للجيش والشاباك وتجنّب العقوبات الجماعية في المناطق وتوثيق التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الفلسطينية. وهذا مزيجٌ فائق الحساسية يسهل جداً تخريبه بتصريحات غير حذرة. وفي الأيام القريبة، سيتبين إن كان ليبرمان انتهج سياسة مغايرة لتلك التي انتهجها سلفه، موشي يعلون».

على كلّ ما نخلص إليه بأنً الاحتلال ما دام موجوداً، وما دام يمارس القمع والبطش والتنكيل والعقوبات الجماعية، ويسنّ القوانين والتشريعات العنصرية، ويصادر حرية شعب وحقه في تقرير مصيره والانعتاق من الاحتلال، فإنّ جذوة وشعلة الانتفاضة لن تموت ولن تنطفئ.

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى