آخر الكلام
د. رائد المصري
في مُجمل القول لا بُدَّ منَ الاعتراف بأنَّ التشوُّهات التي حصلَت في الوعي والإدراك في عالمنا العربي، أكثر ما أصابت ونجحت هي في استهداف المثقَّف وما يسمُّونه عادة النُّخب. ربّما لأنَّ سرعة تحوُّل المثقف واستبداله لمفاهيم معاكسة لما انفطر وانطبع بها، تجعله بالوقت نفسه قادراً على التبرير والتضليل أحياناً كثيرة للنكسات التي يقع فيها أو يُواجَه بها.
وأخصُّ بالذكر هنا مجاميع اليسار أو أكثرية المجاميع اليسارية التي اعتنقت فكر الثورة والفلسفة الاجتماعية على مدى عقود، والذين اعتبروا أنّ العام 1989 هو لحظة نهاية الثورة، وأنّ الثورات الشعبية فقدت مشروعيتها وحقَّها في الوجود.
لكن سرعان ما تكشَّف القناع وتحوَّلت فكرة النيوليبرالية والتعولم الرأسمالي بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى أزمة أو أزمات بنيوية تفجَّرت في أكبر بركان اقتصادي في التاريخ، وبدأت أعمدة العولمة تنهار واحدة خلف الأخرى. وهنا أقول إنه ليس من قبيل المصادفة أنّ ما يُسمَّى بـ الثورات العربية التي اندلعت بعد ثلاث سنوات أو أكثر على أزمة المال العالمية والاقتصادية، ذلك أنّ المفهوم الطبيعي للنظام الرأسمالي عندما تصيبه الأزمات بقوة، فإنّ ارتداداته أول ما تصيب الحلقة الأضعف في بنيته، ونقصد هنا البلدان العربية المشكِّلة لهذا البناء الضعيف من المنظومة الرأسمالية، كما حصل في سلسلة بناء المنظومة الرأسمالية الضعيفة التي شكَّلت روسيا القيصرية إحدى الحلقات الأضعف حينها ونشبت فيها الثورة 1917 . لكن علينا التنبُّه إلى أنَّ للمعادلة طرفين، فهناك كذلك ثورة مضادّة تريد القضاء على المنجزات إذا كان ثمَّة منجزات تذكر حتى لا تشكِّل أمثولة أو نموذجاً يتكرّر في أي لحظة أو مفصلاً تاريخياً، وهنا نعني أنظمة الدول الخليجية التي تشكِّل إحدى معادلات القوة المالية في بنية النظام الرأسمالي العالمية والتي يقع على عاتقها القيام بالثورة المضادّة.
أطلنا هنا بالشرح لنعود ونقول إنَّ هؤلاء اليسار أو بعضهم أو أكثرهم لا يَهمّ ممن انبهر بالنموذج أو بالنماذج السابقة الذكر فاتهم التراكم التاريخي والتحوُّل الذي تعلَّموه في مدارسهم الثورية، وعجَّلوا بدفن أحلام الشعوب ومأساتهم لينبروا إلى تشكيل فصيل رديف مدافع عن السياسات الليبرالية والمالية النفطية خدمة لأمير، أو بُغية منفعة مادية ومالية قد تعبِّر عن معاناة تاريخية طالما حلِموا بتحقيقها إبَّان ركوبهم موجة الثورات والتحرّر مطلع شبابهم.
نقول أيضاً إنَّ هؤلاء المثقَّفين المتحوِّلين يحملون في بطونهم وأحشائهم البذور البرجوازية منذ نشأتهم، ولأنَّ الظروف لم تكن تجاريهم أو عاكستهم، تسلَّقوا شجرة الثورة واليسار والحلم الاجتماعي، وما أن سقط المشروع أو تبدَّى لهم ذلك حتى سارعوا إلى التعبير عن ذواتهم المكبوتة تاريخياً، فشكَّلوا مثلاً رافعة أساسية للجمعيات الحقوقية والمدنية في طول البلاد وعرضها في لبنان ومصر وغيرهما من دول المشرق. كذلك شكَّلوا الرافعة الأولى التي بنت عليها الحريرية السياسية استراتيجيتها الاقتصادية الخطيرة على المصالح الاجتماعية لفقراء الشعب اللبناني، وهو أمر لافت أن تكون حاملاً قضايا الفقراء ويسارياً، ذلك أنّ اليسار ليس كلمة أو درس نحفظه أو موضة تنتهي، بل هو نهج وقضية ودوام واستمرار في تحصيل حقوق الناس من قوى الاستكبار المتوحّشة، فتنبري سريعاً للدفاع عن سياسة الأمير والملك والرأسمالي وتكون أداة بيد البنك الدولي لتطويع الاقتصاد وتركيع الناس، هي سياسة طالما عجز ميكيافيللي عن إدراجها في مناهجه وفي كتابه الأمير…
والأخطر نقول لهذا اليسار المتحوِّل وبعض القوميين والوحدويين ممَّن لم نسمع لهم صوت في كلّ أزمات المنطقة التي تعصف: لا في سورية ولا في اليمن ولا في العراق ولا حتى في فلسطين… فما هو الموقف الحقيقي لما يجري في سورية من إرهاب وتكفير ومؤامرة خطيرة يُراد تمريرها على هذا البلد؟ وما موقفهم مما يُسمَّون ثوار سورية أو ثوار الفنادق …؟ وما الموقف من قادة ورموز هؤلاء الثوار المزعومين وهم يحملون المناشف على أبواب الملوك والأمراء؟ أم أنهم من الطينة والعجينة والمدرسة الواحدة نفسها؟ وما هو موقف هؤلاء المتحوِّلين من قضية فلسطين؟ أم أنهم يكتفون فقط بما يُدلي به أميرهم من رؤية للصراع وما تحمله مبادرة السلام منذ 14 عاماً؟ ثم ما موقفهم الحقيقي من المشروع الاستعماري في العراق مثلاً والحرب على هذا البلد منذ احتلاله العام 2003؟ أم أنهم وقفوا مع الرفيق بول بريمر آنذاك؟ ما الموقف الحقيقي من حرب السعودية على اليمن وأطفال اليمن وشعب اليمن الفقير الذي كان يشكِّل دوماً في كلّ أدبياته شعباً وحكومة دفعاً إضافياً بوجه قوى الاستعمار الأميركية والصهيونية؟ فهل تماهيتم أيها اليساريون المتحوِّلون مع ممالك النفط والمال؟ أم تماهيتم مع المشروع التعدّدي والديمقراطي الاستعماري الذي انبهرتم به طيلة 25 عاماً واعتبرتموه المثال الأعلى لتحقيق أحلامكم المكبوتة؟
للإجابة نحن بانتظار يسار آخر علَّه يقرأ بصورة أفضل قريبة من الواقع الصعب…