الموقف الأميركي: عرقلة واحتواء «داعش» وإنقاذ الحلفاء الأكراد
اتجهت كافة الأنظار نحو العراق لمراقبة ما يجري ميدانياً عبر التصدّي لتقدم «داعش» بالغارات الجوية الاميركية، وسياسياً بعد ممارسة ضغوط مكثفة لحمل رئيس الوزراء نوري المالكي على تقديم استقالته. بينما تراجع زخم الاهتمام الرسمي والمؤسساتي بالعدوان «الاسرائيلي» على غزة، لا سيما في ظلً الإعلان عن هدنة إضافية تمتدّ لخمسة ايام.
سيستعرض قسم التحليل أوضاع العراق في ظلّ المستجدات الراهنة، خاصة الانخراط العسكري الأميركي وشنّ غارات جوية مكثفة على مواقع ومسلّحي «داعش» عقب «تهديده المباشر لأربيل» عاصمة اقليم كردستان العراق. العمليات الحربية تدور في العراق بيد انّ انظار صنّاع القرار في اميركا تبقى مسلّطة على سورية تريد الانتقام من صمودها وافشالها المخططات الاميركية.
قطاع غزة
حذر المجلس الأميركي للسياسة الخارجية من تكرار سقوط الضحايا المروّع في قطاع غزة الى «مناطق اخرى في الشرق الاوسط… اذ يبدو ان مصير إسرائيل، وعموم المنطقة، التعايش مع ذلك النمط من التحدي في المستقبل المرئي.» وقال انّ «الخطر، عاجلاً ام اجلاً، سيداهم النظم الديمقراطية الأخرى، وسيطال تلك الدول البعيدة عن الشرق الاوسط.»
العراق
اعرب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية عن تأييده التام «لاستراتيجية الرئيس اوباما المستندة الى استخدام سلاح الطيران والقصف الصاروخي، وارسال مستشارين، وتوريد الاسلحة…» وحث الشعب الاميركي على «ضرورة تقبّل تلك الحقائق بصرف النظر عن خلافاتهم وانقساماتهم الحزبية ونواياهم السياسية للمستقبل.» واستدرك بالقول ان التدخل في العراق يشكل «خليطاً من أقل الخيارات سوءاً… بل ان عوامل عدم اليقين في الخارطة السياسية هائلة ليس بوسع أحد الجزم بانها ستفضي الى الحلّ الصواب.»
استعرض مركز الدرسات الحربية سبل توطيد «داعش» نفوذه «عبر الحملة الواسعة التي شنّها منذ منتصف شهر تموز الماضي لتعزيز سيطرته الداخلية على مناطق الخلافة… والذي يستدعي استغلال قدراته العسكرية لبسط نفوذه على الأراضي العراقية والسورية وإنشاء جملة من الحدود البيّنة يستطيع الدفاع عنها،» وحماية إنجازاته الأخيرة في الرقة والحسكة ومحافظة نينوى «وضمان سلامة خطوط إمداده اللوجستية والاتصالات… وحماية حرية حركته داخل تلك المناطق.»
حث معهد ويلسون دول الإقليم الأخرى أخذ زمام المبادرة والتحرك باتجاه العراق، لا سيما انّ «بصمات سياسة الرئيس أوباما لا تزال حية في إنشاء تحالفات مع الدول الأخرى لمكافحة الإرهاب… وينبغي على الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي لعب دور الصدارة لتوفير العون الإغاثي والدعم العسكري للغارات الجوية والقوات البرية بغية إلحاق الهزيمة وسحق «داعش»، لا سيما وهو الذي يضع نصب عينيه الولوج الى الأردن ولبنان والسعودية.» وأعرب عن اعتقاده بأن تشكل سلسلة الغارات الجوية الاخيرة «مصدر إحراج لعددٍ كافٍ من دول الجامعة العربية لبدء العمل في ما هو متوقع منها القيام به.»
حذّر معهد واشنطن من تطوّر «داعش» ليصبح «الناطق بلسان السنة إلا في حال إقدام واشنطن على القيام بخطوات» معينة. واستنهض الشعب الاميركي المتردّد «في دخول حرب أخرى في الشرق الاوسط» مطالباً ممارسة الضغط على صنّاع القرار «لتعزيز ما تحقق من إنجازات والعمل مع الحلفاء العرب، وإعلاء كلمة الأقلية السنية، الذين سيملأون الفراغ الناجم عن إلحاق الهزيمة بداعش في سورية والعراق.»
عقد مركز الدراسات الاستراتيجحية والدولية جلسة نقاش مغلقة لبعض الخبراء في الشؤون العسكرية والعراقية، للبحث في صوابية دعم اقليم كردستان العراق من عدمه. وقال أولئك أنّ المناطق الكردية «أثبتت أنها واحة استقرار مؤيدة للولايات المتحدة… ونحن ملزمون لتوفير سبل الدعم لمساعدتهم في الدفاع عن أنفسهم،» فضلاً عن أنّ تعزيز قدرة الإقليم الكردي «يعدّ خطوة أولى ضرورية لاحتواء الدولة الاسلامية والتي قد تتطوّر الى تبنّيها كاستراتيجية اميركية… فضلاً عن توفيرها الزخم المطلوب لجهود الإدارة الأميركية ممارسة ضغوطها على حكومة بغداد لتوسيع واستقطاب القوى الأخرى في صيغة الحكم التي من شأنها، لو توفر لها الدعم الأميركي والإيراني، فرض التراجع على داعش.» واوضح المشاركون انّ أكثر الاحتمالات ترجيحاً هو «قيام حكومة تدعمها إيران وتسعى إلى احتواء خطر الدولة الإسلامية في منطقة الشمال الغربي» من العراق.
التحذير من مخاطر الانخراط العسكري في العراق أتى من «معهد كاتو» لافتاً النظر الى انّ «مغبّة التدخل يرافقها تداعيات غير مقصودة وغير محسوبة وعسيرة على التحكم بها.» واوضح انّ «تجربة التدخل الاميركي في الشرق الاوسط تشير الى أنّ تدخلاً ما يولّد آخر في العموم تقريباً…» ونقل على لسان قائد هيئة الأركان المشتركة السابق، مايكل مولن، قوله «ليس بوسع نشر أعداد كبيرة من القوات في ظلّ فترة زمنية مفتوحة ان تغيّر في النتائج.»
تركيا
تناول «صندوق جيرمان مارشال» للتنمية نتائج الانتخابات الرئاسية في تركيا مذكراً بتعهّدات الرئيس المنتخب رجب طيب اردوغان الصريحة بأنه «لا ينوي تقييد نفسه بالصلاحيات الرئاسية المنصوص عليها دستورياً،» محذراً من ميله «لفرض نظام رئاسي بفعل الأمر الواقع مستغلاً وضعه كرئيس وزراء لتحويل الصلاحيات الى الرئيس…»
واستعرض معهد واشنطن فوز أردوغان وانعكاساته على مستقبل العلاقات الاميركية التركية قائلاً إنه «يستعدّ لتبّؤ منصب الرئاسة ليحكم البلاد بمفرده… والذي سيقدم على الأرجح زيادة تحريض الولايات المتحدة على توفير مزيد من الدعم للمسلحين السوريّين، وكذلك طلب دعم الولايات المتحدة لتعزيز صراع أكراد العراق مع الحكومة المركزية في بغداد…» وأضاف انّ اردوغان سيجد متسعاً من الحيّز «للتعاون مع الولايات المتحدة في مسائل ذات حساسية سياسية مثل علاقات تركيا مع كلّ من أرمينيا وإسرائيل… وترميم علاقاته مع الرئيس اوباما طمعاً في حصوله على الدعم الاميركي كدرع حامٍ لتركيا من حالة عدم الاستقرار السائدة في كلّ من سورية والعراق…»
التحليل
بعد طول ترقب وانتظار لسبر أغوار مخططات «داعش» لم تحرك فيها الولايات المتحدة ساكناً خاصة للمجازر الموثقة التي ارتكبها في الموصل ومحيطها، وما لبثت ان سارعت اميركا إلى استحضار الخيار العسكري عندما لاح خطر تهديد «داعش» للسيطرة على مدينة اربيل، تاج المخطط الصهيوني لتقسيم العراق الى كانتونات متعدّدة وبات على بعد 50 كلم من تخومها. وشكل تقدّمه واندفاعه «نكسة استراتيجية» لمشروع فصل إقليم كردستان عن الوطن الأم، لا سيما لتوارد معلومات تفيد بأنّ «داعش» لديه خلايا نائمة في اقليم كردستان.
في خطوة اخرى ذات دلالة، تزامن اعلان الرئيس اوباما شن غارات جوية متواصلة في العراق مع توزيع «داعش» منشورات باللغة الانكليزية في قلب العاصمة البريطانية وعلى بعد أمتار قليلة من مقرّ السفارة الاميركية في لندن. الإعلان وزع بكثافة في شارع «اكسفورد» الشهير والمركزي، وبالقرب من حديقة «هايد بارك،» مبشراً بقيام دولة «الخلافة الاسلامية» داعيا الجمهور الى شدّ الرحال والهجرة الى هناك اذ انّ «فجر عصرٍ جديدٍ بدأ بالفعل.» المنشورات المذكورة قد لا تكون ذات تأثير كبير في السياق العام للحرب الدائرة على وحدة ما تبقى من العراق، الا انها مؤشر على جرأة وعمق تأييد القاعدة الشعبية التي يتمتع بها «داعش» في الغرب.
برّر الرئيس أوباما إعلانه بدء الغارات الجوية على العراق، الذي قد يستغرق «بضعة أشهر،» بأنه ضروري «لحماية المصالح الأميركية» هناك. المغيّب في اعلانه هو تحديد ماهية المصالح الممثلة في امتيازات شركات النفط الاميركية الكبرى، اكسون موبيل وشيفرون، واستثماراتها الضخمة في اقليم كردستان في تحدّ سافر لحكومة بغداد. الناطق باسم البنتاغون، جون كيربي، أوضح أهداف الغزو الاميركي المتجدّد بالقول «القوات العسكرية الاميركية ستمضي في مهامها بالمواجهة المباشرة ضدّ داعش اينما نجده يهدّد قواتنا ومنشآتنا.»
صحيفة نيويورك تايمز لمّحت الى حجم «المصالح» الهائلة بالإشارة الى تواجد «عدة آلاف من الاميركيين،» في اربيل، ولا شك انّ عدداً لا بأس به منهم ضباط في وكالة الاستخبارات المركزية. صحيفة الغارديان البريطانية علقت بالقول انّ الاميركيين «لم يستطيعوا البقاء خارج العراق . بالكاد مضى عامان على انسحاب القوات الاميركية من العراق، والآن عادوا للقتال مرة اخرى. وجاء الرئيس اوباما في المرتبة الرابعة على التوالي من الرؤساء الاميركيين الذين صادقوا على العمليات العسكرية في العراق» بمعزل عن تفويض من الامم المتحدة. عدد 13 آب الجاري .
بعبارة اخرى، جاء تطبيق «سياسة الحرب الكونية على الارهاب» مفتوحة الأجل استكمالاً للمخططات السابقة لفرض السيطرة الاميركية المطلقة على موارد المنطقة، وهذا يدحض مزاعم أركان الادارة الاميركية، لا سيما سفيرتها لدى الامم المتحدة، سامانثا باور، التي ما برحت تردّد تقديس «مبدأ مسؤولية الحماية» للاميركيين اولاً، من دون ان يرفّ لها جفن على حجم الضحايا الابرياء الذين تسبّبت السياسات الاميركية بإبادتهم، صغارا وكبارا.
القتال في العراق والعين على سورية
مجلة «الايكونوميست» الرصينة عنونت غلاف عددها الأخير «العودة الى العراق،» معلنة تأييدها السافر لتجدّد الغارات الاميركية لعرقلة تقدم «داعش،» وبعد نجاحها قد تجد «الولايات المتحدة مهمّتها تختزل في تنفيذ غارات جوية متباعدة لمعاقبة واحتواء داعش.» وحثت زعماء الدول الغربية قاطبة «على ضرورة تهيئة الرأي العام في بلدانهم لخوض عمليات عسكرية طويلة الأجل في ذاك الجزء من العالم.»
الأخطر ان تقرير المجلة يمهّد الأرضية لاستكمال الغارات الجوية في سورية، قائلة «من غير المرجح ان تتمكن الولايات المتحدة من تدمير او احتواء الظاهرة الجهادية، في المدى البعيد، من دون إعداد نفسها للتدخل في سورية » بحجة ملاحقة تشكيلات «داعش». جاء ذلك بالتساوق مع تصريحات وزيرة الخارجية السابق هيلاري كلينتون التي تصرّ في تصريحاتها الأخيرة على أنه كان يتعيّن على الولايات المتحدة قصف الاراضي السورية قبل العراق. واضافت الايكونوميست: «عاد الاميركيون للقتال البري، وستطول إقامتهم لفترة مقبلة.»
النخب الفكرية الاميركية ممثلة بأحد أهمّ اركنها، مجلس العلاقات الخارجية، حث رئيسه ريتشارد هاس الإدارة الاميركية على «القيام بشنّ غارات متواصلة ضدّ «داعش» في كلّ من العراق وسورية. الحدود القائمة ليست ذات أهمية… الهدف هو وقف اندفاع داعش وايضاً إنجازه بوسيلة من شأنها تفادي ان تصبح إيران هي المستفيدة.» مقال نشرته يومية «فاينانشال تايمز» البريطانية في 12 آب .
ما تقدّم من عرض كان ضرورياً للدلالة على النوايا الحقيقية المبيّتة للإدارة الاميركية، ليس في العراق فحسب، بل إبقاء سورية في صلب دائرة استهدافها. ضمن هذا السياق ينبغي قراءة تأجيج الخلافات الداخلية لنظام أرست الولايات المتحدة أسس المحاصصة الطائفية، ورمت بعرض الحائط نتائج الانتخابات «الديمقراطية» الاخيرة التي صدّعت العالم بها، وأصرّت على الإطاحة برئيس الوزراء نوري المالكي لتصفية حسابات سابقة معه وعلى رأسها: إصراره على رحيل كافة القوات الاميركية من العراق عام 2011، ورفضه عرضاً اميركياً لبقاء قوات عسكرية في العراق قوامها 10 آلاف عسكري على الأقل وموقفه المؤيد لسورية وحكومتها في محاربة قوى المعارضة السورية المسلحة المدعومة اميركيا. كما انّ البعد الاقتصادي لم يكن غائباً عن اللوحة لا سيما في «العطاءات النفطية» التي أقدم عليها العراق والتي «لم تحفظ لواشنطن حصة الاسد» لشركاتها كما رغبت.
هذا الصراع الخفي بين نوري المالكي، بصفته الرسمية وفق صلاحياته كرئيس للوزراء كما صاغها الدستور الذي وضعته اميركا، ينبغي اخذ عناصره بعين الاعتبار للتوقف على حقيقة التوجه الاميركي في تشظي العراق والحيلولة دون تحقيق شبح سقوط الاقليم الكردي، وتسليحه ودعمه براً وجواً.
هشاشة الوضع العسكري للأكراد
أقرّت صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير مطوّل، 14 آب، بحرفية قوات داعش «اذ تتسم الجماعة بالدهاء والتطوّر ولديها بنية تحتية فاعلة قد تستمرّ لسنوات قادمة.» وأضافت انّ الغارات الجوية المكثفة التي تشنّها الولايات المتحدة «قد توقف توسّع داعش لكنها لن تلحق به الهزيمة.»
واكد عقم القصف الجوي مدير العمليات في هيئة الأركان المشتركة، الفريق ويليام مايفيل، بالقول انّ «المأزق يشير الى انتفاء الفعالية من الغارات الجوية المحدودة كالتي شنّت في الأيام القليلة الماضية لوقف اندفاع داعش وتوغله عميقاً داخل الاراضي الكردية.» تصريح لصحيفة «ستارز آند سترايبس» للشؤون العسكرية .
واضاف مايفيل انّ بلاده «تنوي توفير اسلحة فعّالة والتي باستطاعتها تدمير العربات العسكرية الاميركية ومعدات ثقيلة اخرى» استولى عليها «داعش»، اذ انّ «قادة القوات الكردية اشتكوا انّ الأسلحة الخفيفة لدى قواتهم عاجزة عن اختراق المدرعات الاميركية.» ومضى بالقول انّ المعدات الاميركية وحدها لن تفي بالغرض لا سيما ان قوات البيشمركة الكردية تستخدم صواريخ مضادة للدروع روسية الصنع، من طراز 14.5 و 12.5 ملم، مما «يتعيّن على الولايات المتحدة الاستعانة بحلفاء اقليميين مثل مصر لتوفير ذخائر اضافية روسية الصنع.»
لا يساور القادة العسكريون الاميركيون الشك في تواضع فعالية الدعم الاميركي للاكراد بالأسلحة والذخيرة، بل يدركون انه يتعيّن عليهم نشر مزيد من القوات الخاصة في المناطق الكردية في تباين فاصل مع وعد الرئيس اوباما بأنه «لن يرسل قوات تنخرط في القتال البري هناك ومقاربة مديات الدعم المطلوب من دون المجازفة بدخول قوات عسكرية غربية لإنجاز المهمة، لا سيما أنّ تجربة التدخل في العراق عام 2003 لا تزال ماثلة حية، وقد استوجبت تدخل قوات اميركية خاصة كثيفة في الجانب الكردي آنذاك، عقب تراجع تركيا توفير أراضيها كقاعدة انطلاق للغزو الاميركي. الجهد القتالي الأكبر كان من نصيب القوات الاميركية والغربية، لا سيما الكتيبة الثالثة للقوات الاميركية الخاصة، وسخرت قوات البيشميركة الكردية لمهام تطهير حقول الالغام ودعم القوات.
في أثناء المواجهات مع الجيش العراقي آنذاك، اشتبكت القوات الخاصة الأميركية مع القوات المدرّعة العراقية، لا سيما وحدات «القبعات الخضر» التي استخدمت قذائف مضادة للدروع من طراز «جافلين» بدعم من سلاح الجو بينما بقيت قوات البيشميركة في الخلف تنتظر انتهاء الاشتباك. واصدر القادة العسكريون أوامرهم لبعض عناصر القوات الخاصة التراجع خلف الخطوط لإعانة القوات الكردية والتي استهدفت بغارة جوية اميركية عن طريق الخطأ.
الاداء العسكري المتواضع للاكراد امام داعش، حفز الولايات المتحدة على تبوّؤ مركز صدارة التصدي المباشر. تجد القوات الاميركية نفسها تكرّر تجربة الماضي القريب بالاعتماد المتزايد على تشكيلات قواتها الخاصة في هذا الشأن، عوضاً عن القوات التقليدية المجهّزة لتلك المهام. تلك هي المعضلة التي تواجه الرئيس اوباما وصنّاع القرار: الالتزام العلني بعدم انخراط القوات البرية في القتال، ومأزق التصدي الفعال لـ«داعش» والاحتفاظ بالسيطرة على الارض وهي من مهام القوات التقليدية. بل ان افضل ما تستطيع الولايات المتحدة تحقيقه في المواجهة ضدّ «داعش» هو التوصل لحالة تجميد الأوضاع كما هي عليه، بيد انّ تلك المغامرة ليست مضمونة النتائج.
اللوبي الكردي في واشنطن
منذ زمن بعيد وظف اقليم كردستان موارد كبيرة لإنشاء ما يُسمّى «باللوبي الكردستاني» في واشنطن، لاستدرار عطف صنّاع القرار ودعم مآربه في تحقيق استقلال الاقليم والتحكم بموارده النفطية. في هذا السياق برز اسم السفير الاميركي الاسبق في بغداد بعد الاحتلال، زالماي خليل زاد، برفقة المستشار الاسبق لمجلس الأمن القومي الجنرال جيمس جونز، كثنائي معتبَر للترويج لمصالح اقليم كردستان لدى الدوائر الاميركية. بالاضافة للثنائي المذكور، دأبت قيادة اقليم كردستان على الاستثمار في عدد من الشركات والمؤسسات الاميركية المختصة بالعلاقات العامة وذات النفوذ في أروقة الكونغرس، من أهمها مكاتب محاماة ضخمة، «باتون بوغز،» تنفق عليها بضع ملايين من الدولارات سنوياً راجع تقرير يومية «فورين بوليسي» عدد 13 آب الجاري .
وأوضح التقرير المذكور انّ جهود اللوبي «أثمرت في إعلان البيت الابيض بدء حملة قصف جوي في مناطق الاقليم» ضدّ قوات «داعش»، «ونتيجة مباشرة للعلاقات الخاصة التي تربط واشنطن بقادة دولة كردستان المستقلة عملياً…» بل «بدأت الحكومة الاميركية الوفاء بالتزاماتها بتسليح الاكراد… الذين يتمتعون بدعم عدد من الأصدقاء المؤثرين في واشنطن.» من هؤلاء «الاصدقاء» يبرز عضوي الكونغرس الجمهوري جو ويلسون، ولاية ساوث كارولينا، والممثل السابق عن ولاية تنسي لينكولن دايفيس، اللذين أسّسا «التجمّع الكردي الاميركي،» عام 2008 كحاضنة لاستقطاب دعم «مسؤولين سابقين في الحكومة الاميركية تشمل وزارتي الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية، اضافة إلى مسؤولين سابقين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي.»
لم يعد سراً انّ خليل زاد يمتلك استثمارات نفطية واقتصادية اخرى في اقليم كردستان، إضافة إلى رفيقه جونز. بل انّ عدداً من كبار القادة العسكريين السابقين «يحتفظون بمصالح واستثمارات مباشرة في حقول النفط الكردية… او تسجيلها عبر زوجاتهم» تفادياً للإحراج والمساءلة القانونية، وفق ما أوضحه المسؤول السابق في البنتاغون مايكل روبين.
واضاف تقرير «فورين بوليسي» انه اكتشف لاحقاً ضلوع السفير الاميركي السابق لدى بغداد، بيتر غالبريث «في استثمارات ضخمة في احد آبار النفط الكردية عبر شركة نفط نرويجية،» ويشغل حالياً منصب «مستشار رئيسي في شركة استشارات يملكها خليل زاد، إضافة إلى امنصب المدير التنفيذي «للمجلس الاميركي الكردي التجاري.»
اميركا تطيح بالمالكي ليصعد مساعده العبادي
كلف البرلمان العراقي بتوفير المسوغات القانونية للإطاحة بزعيم الكتلة الاكبر فيه، نوري المالكي، برفضه ترشيحه لولاية ثالثة جديدة لمنصب رئاسة الوزارة، وأتى بمساعده حيدر العبادي كحلّ مفضل روّجت له واشنطن. واسفر التجاذب والصراع المتصاعد الى قبول المالكي تنحّيه لصالح مساعده كي يجنّب حزبه والبلاد أزمة سياسية هي في غنى عنها، لا سيما انّ الاولوية الراهنة تنصبّ على حشد الجهود لمواجهة «داعش».
وسارع الرئيس أوباما وأركان إدارته الى تهنئة العبادي، وتلاه تهاني جاءت من طهران على لسان رئاسة مجلس الأمن القومي. وارفق اوباما وحكومته رسائله بالتشديد على ضرورة توسيع هامش آلية الحكم وإفساح المجال امام مشاركة اقوى «للسنة والاكراد،» عملاً بنصوص الدستور الطائفي. الثابت انّ القوى الكردية فقدت حوافز انخراطها في الحكومة بشكل أوسع على ضوء التطورات الاخيرة واحياء طموحات قادتها بالاستقلال واعلان الدولة. اما «السنة» ممثلين بالعشائر العراقية التي دعمت «داعش» في بداية الأمر، نكاية بحكومة المالكي، فمن المرجح تبديلهم لمواقعهم بعد رفضهم لنمط حكم «داعش» الاستبدادي.
نظرياً، ستحظى حكومة العبادي بدعم اميركي، ليس لمصلحة العراق بالضرورة، بل لإرساء مظاهر الاستقرار في البداية، كما أوضح وزير الخارجية جون كيري بقوله انّ بلاده «على اتمّ الاستعداد للنظر بتوفير دعم سياسي واقتصادي وأمني لمساعدة الحكومة العراقية الجديدة.»
في الشأن العسكري استدرك كيري موضحاً انّ الولايات المتحدة «ستراقب ما سيطلب منها مستقبلاً من وسائل الدعم من الحكومة وستنظر فيها تباعاً،» مستبعداً انخراط مزيد من القوات العسكرية الاميركية. هذا التوجه يقود الى الاستنتاج انّ الولايات المتحدة لن تترك العراق «يعيد ترتيب أوضاعه سلمياً» في إطار الدستور «الفيدرالي» الذي صاغته له، بل الثابت انّ اميركا ليست معنية بالحفاظ على وحدة العراق وضمان سيادته على أراضيه.
خصوم الرئيس أوباما من الحزب الجمهوري، بشكل خاص، وبعض أركان الحزب الديمقراطي يتهمونه بأنّ سنوات ولايته «شهدت تراجعاً جدياً للقوة العسكرية الاميركية عبر العالم… وضروة إعادة الاعتبار لقوة وهيبة الولايات المتحدة. اسبوعية «تايم» حرّضت قرّاءها على انّ «الرئيس اوباما يميل إلى التردّد عوضاً عن اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية، والنتيجة أزمات متلاحقة.» وكأنّ التدخلات العسكرية والاقتصادية والاغتيالات بطائرات الدرونز هي اوجه «التراجع.»
تلك القوى، وهي مؤثرة ولها أوزان معتبرة، ما برحت تستعيد اخفاق السياسة الأميركية في سورية، وترى انّ الغارات الجوية ضدّ «داعش» ما هي الا وسيلة الرئيس اوباما لاستعادة هيبة أميركا في العراق، «واضحت بديلاً عن فشله في سورية.»